في المفاهيم الحديثة للدولة انّ الغاية من إدارتها للأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي بلوغ هدف التقدّم والازدهار وتحسين مستوى حياة الأفراد الذين يعيشون تحت كنفها، فضلاً عن حمايتهم وحماية ممتلكاتهم وتوفير الأمن والاستقرار لهم، إضافة الى توفير التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، وإقامة المرافق العامة كالنقل والاتصالات والكهرباء والمياه، وتحقيق العدالة بين الناس، وغيرها من الواجبات التي تتكفل بها السلطة لضمان حياة المواطن وتوفير احتياجاته. في المقابل على المواطنين واجبات منها المحافظة على المال العام المتمثل في المرافق والمشاركة في تنمية الوطن، وعدم إشاعة الفوضى والفساد الاجتماعي، وغير ذلك من الواجبات الملقاة على المواطن إزاء وطنه…
هذا في التوصيف الذي تعجّ به الدساتير والمواثيق المخالفة في الكثير من الأحيان لما يجري في الواقع كحال الدولة اللبنانية التي منذ أمد بعيد استقالت وأقيلت من مسؤلياتها نتيجة لمخططات غير بريئة كشفت عنها الكثير من الوثائق التي جعلت من لبنان دولة فاشلة؛ ومن مصاديقها ترك الشعب اللبناني المسؤولة هي عنه فريسة بين أيدي كارتيلات احتكارية تتلاعب بالتضامن والتكافل مع جهات خارجية وبالتواطؤ وبالصمت من جهات تسمّي نفسها سيادية في مقدّراته ومعيشته في الغذاء والدواء والنفط وغيرها.
وخير مصداق لهذا الأمر الرفض حتى الآن لهبة الفيول الإيراني والتي أرادت الجمهورية الاسلامية الإيرانية من خلالها مساعدة الشعب اللبناني وإتاحة الأمر لشركة كهرباء لبنان مضاعفة مستوى الإنتاج، ما يزيد من التغذية اليومية، هذا فضلاً عن استعدادها لبناء معملي كهرباء بقدرة 1000 ميغاواط لكلّ منهما عن طريق Bot وتطوير شبكة التوزيع.
قراءة بسيطة للوقائع يتبيّن أنّ هناك ثلاثة أسباب تقف حائلاً أمام الشعب اللبناني للاستفادة، سواء من الفيول الإيراني او استجرار الكهرباء والغاز المصري:
1 ـ كارتيلات المال الفاسد
من أبرز عناوين استقالة الدولة من رعايتها لمواطنيها هي تركها لهم فريسة تنهشهم 13 شركة تسيطر على استيراد المشتقّات النفطية؛ أعضاء هذا الكارتيل في لبنان من الشركات تسيطر على الأسواق، تتكتّل وتتعاضد من أجل حماية مصالحها، علماً بأنّ الدولة كانت في السابق وعبر منشآت النفط في طرابلس والزهراني هي التي تتولّى الاستيراد، ولم تكن وظيفة الشركات الخاصّة سوى توزيع النفط الناتج عن المصفاتين عبر الصهاريج، وهذه الشركات المدعومة من منظومة سياسية وأمنية واقتصادية ودينية تتحكم بحركة السوق من خلال التوزيع والحجب، والمتحالفة مع الكثيرين من أصحاب مولدات الكهرباء لم تألُ جهداً في إفشال ايّ محاولة لاستيراد او قبول هبة تخفف عن كاهل اللبنانيين وذلك تارة عبر حديث مضلل عن المواصفات التي قال فيها الإيرانيون إنها موجودة وإيران مستعدّة لتأمينها، وتارة عبر التذكير بشماعة العقوبات الأميركية المخالفة للقوانين الدولية وضرورة التشديد على الالتزام بها.
2 ـ الحظر الأميركي المخالف للقانون الدولي
من المعروف انّ الولايات المتحدة الأميركية منذ سنوات أصدرت قانوناً مخالفاً للقوانين الدولية وللعلاقات الإنسانية حظرت بموجبه على لبنان الاستفادة من استجرار الكهرباء والغاز من مصر عبر سورية المستهدفة من قانون قيصر الجائر، وهذا الأمر مضافاً الى العقوبات الأميركية المفروضة على إيران منذ عشرات السنين تقف حائلاً بينها وبين المساعدات الإيرانية المعروضة على الشعب اللبناني لا سيما في مسألتي النفط والكهرباء، إلا انّ عدم إقرار الهبة الإيرانية غير الخاضعة لمنظومة العقوبات الأميركية ورغم أنّ لبنان بأمسّ الحاجة إليها يطرح الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام عن أسباب التراجع الأميركي الذي لم يبدِ معارضة حسب ما تمّ تداوله على قبول الهبة، وهل كان ذلك مناورة لتمرير التوقيع عل ترسيم الحدود البحرية أم التريّث لمراقبة المشهد العام المترتب عن نتائج الانتخابات جرت في الولايات المتحدة والكيان «الاسرائيلي».
3 ـ أدعياء السيادة
ابتدعت مجموعة تضمّ شخصيات متنوعة يتقدّمهم الدكتور رضوان السيد نظريات جديدة ممكن إدخالها في المناهج الجديدة في علم الاجتماع السياسي وتحديداً حول مفهوم السيادة من وجهة نظر انتقائية تتفاوت من حيث المنفعة والتبعية، فحصار قيصر ومنع استجرار الغاز والكهرباء المصرية ومنع الفيول الإيراني والخروقات «الإسرائيلية» اليومية أمور لا تخدش نظرياتهم الجديدة في السيادة ولا يرون حاجة لعقد مؤتمر دولي لحماية لبنان من آثارها، لا سيما مفاعيل الحصار الأميركي العامل الأساسي في تجويع شعبه، بل المُراد من وجهة نظرهم ضرورة انعقاد مؤتمر دولي خاص بلبنان، لحماية وثيقة الطائف وتثبيت التزاماته في القرارات الدولية، دون الحاجة للحديث عن الخروقات «الإسرائيلية» اليومية التي على ما يبدو في المفهوم السيادي الحديث لهذه المجموعة حق مكتسب لكيان العدو.
في الخلاصة وبالقليل من الإنصاف يستطيع ايّ قارئ للاحداث ان يستنتج وبكلّ بساطة وبسهولة تامة أنّ كآبة اللبنانيين وأوضاعهم الاقتصادية المزرية والآفات الاجتماعية المتنوعة التي تتكاثر باستمرار في المجتمع اللبناني مردّها وبشكل حصري الى تحالف كارتيلات المال الفاسد المدعوم أميركياً والمسكوت عنه حتى التواطؤ من قبل مدّعي السيادة والاستقلالية والتي تمنع ايّ بصيص أمل ممكن أن يساهم في تحسين أوضاع الشعب اللبناني، مثل هبة الفيول الإيراني والغاز المصري، وهذا أمر في منتهى الابتزاز والظلم الذي لا بدّ ان ينجلي. ولن يكون ذلك إلا من خلال تعزيز المناعة الوطنية وبناء القوة؛ فالعالم المتوحّش لا يحترم إلّا الأقوياء…