عند تعرّض أيّ مجتمع أو كيان لأزمات تنتج عن سلطة جائرة، وتصبح العدالة غائبة، تنشأ حركات ومجموعات تحاول رفض هذا الواقع، وتسعى لتغييره.
ومن بين هؤلاء يبرز من هم أقدر على تظهير ما هو كامن في مخيلة الناس واحلامهم، ومع الوقت يصبح هؤلاء هم قادةَ المجتمع الساعون الى تغيير الواقع للأفضل.
ومن بين هؤلاء القادة(غالبا ما يكونون قادرين على فلسفة الأمور،حتى ليبدولك"الحكوجي" أهم ممّن يناضل في ميدان ما)،
من بين هؤلاء القادة، يظهر من هو الأكثر كريزما، أو صاحب الشخصية الأكثر صورا. وعلى سبيل المثال فقط، شخصية القائد جمال عبدالناصر رحمه الله، كأحد الضباط الاحرار.
وعند أوّل إنجازٍ يتحقق، تجد الأتباع يهتفون باسم الزعيم، ويُرخِصون له دمَهم وأرواحَهم؛ ومن هنا تبدأ الحكاية.
فالزعيم الصاعد هو أحد افراد المجتمع،لابل غالباما يكون أحد فقرائه، مما يجعله مرغوبا فيه ومحبوبا في بيئته.
وعند كل مفصل أو مناسبة، أو قرارٍ يأخذه الزعيم، تتوزّع الأصوات والأقلام ما بين مؤيد ومادح ومبخّر، واليافطات (التي أضحت في زماننا بّوستات): بالروح بالدم نفديك يا...
فيكتب الشعراء،وينشدالمغنّون ويتبارى المعرِّفون بتقديم الزعيم على الشاشات والمنابر، بكلماتهم التي قد تستخدم لتعريف آلهة وتوصيفها.
رحم الله الإمام الخميني المقدس الذي اعتلى المنبر، وأولى كلماته كانت أن رفض ما قاله فيه المعرِّفُ، من مديح وما وصفه به من علو مقام وعظيم إنجاز.
وعلى غفلةمن أمرنا،ونحن نجلّ الزعيم ونُقدِّسه، تتسلل الى مقدّمة الصفوف طحالب الثورة وفطرياتها،وجل الّذي يفعلونه أمران:
الأول: التبجيل والتبخير للزعيم.
والثاني: بناء منظومة مصالح قائمة على "مرّقْلي تَمَرِّقلَك" و"اسكتْ عنّي لِأسكُتَ عنّك". وتنموهذه المنظومة،وتتماسك
لتصبح قبضةَ الزعيم وأُذُنَهُ وثُمّ لسانه، وحتّى كلّه؛
وهذه المنظومة تُظهِرُ أنّها من أكثر المدافعين عن الزعيم الذي"لايُخطِئ"، وقول الزعيم مقدس، طالما أن مصالح المنظومة بخير .
ويمكن للناس ارتِكابُ كلِّ المحرّمات، إلّا الشكَّ بِقُدْسِيَّةِ الزعيم.
أمًا مصالح الناس، التي هي من صنع للزعيم زعامته،فعندمافسّر لهم أحلامهم، وجمّلها، وتكلّم عما يجول في بالهم، وأيقظ كل مكنون قلوبهم وخواطرهم؛ مصالح الناس هذه، لم تَعُدْ أولويةً، فلا بأس من إهانةٍ هنا وكرامةٍ تُداسُ هناك، أَوَلَيسَ الزعيمُ وحاشيتُه بخير؟!
هناتتشتتُ أفكارالمجتمع وآراؤه
ما بين رافضٍ أن يصدِّقَ أنَّ مصدرأوجاعهم هو مَنْ تزعَّمَهُم الّذي أصبح دكتاتوراً لا يهمه إلّا المحافظة على مملكته؛ ومنهم من لا يريد حتى أن يفكر، ولو بخاطرةٍ، وهو من أفنى عمره يهتف باسم الزعيم، وبنى آمالهُ وأحلام أولاده، ورُبّما أحفاده، بأن غدكم مُشرِقٌ، وأنّ بكرة "اللي جاييكم" لن يكون ألعنَ من أمسكم.
وبين أصحاب المصالح الضيقة مجموعة تقتات على فتات ما تتركه لها المنظومة الحاكمة، لتحيا به.
خلاصة الكلام:
عندما تجد من يحاكي أحلامك أيّده وأيّده وأيّده، ولكن إيّاكَ وأن تُقدِّسَهُ أوأن تجعلَه الأفهمَ والأذكى والأعقل، حتى لا تصبح الأدنى الذي لايحسب له حساب لأنّك لو فعلت هذا، سيكون جُلُّ ما تكون فعلتَه هو استبدالُ ظالمٍ بطاغيةٍيحلُّ محلّه، ويسرق عمرك ليعيش زعيما، وتبقى أنت مُستضعفا.
رحم الله الكاتب محمدالماغوظ مؤلّف مسرحية "غربة"، التي تحكي قصةَ الحاكم الظالم الذي أسقطه الناس، وأوصلوا آخر، ليحكمهم، وعندما أوصلوه سألوه عن الدستور، فأجابهم: الدستور أكَلَهُ الحمار.
ونحن،في عالمنا، نصنع بأيدينا طواغيتَ نظنُّ أنّها الخلاص، فإذا بها كوابيسُ تمنع أبناءنا حتى من الحلم؛ ليكون أكثر ما يتمنونه الهربَ من واقعهم ليلا، ولو كلفهم ذلك الموت غرقا،في بحر يرونه أرحم من الزعيم.
والشيء بالشّيء يُذكر، فإنّ معمّر القذافي، وصدام حسين، وأبا عمار،"وغيرهم كثير، هكذا بدأوا وهكذا انتهوا".