البشير عبيد / تونس
في عالم يزداد تشظّيه الأخلاقي وتتعاظم فيه سطوة الاستهلاك والتشييء، يظل سؤال الإنسان قائمًا بإلحاح: ما جدوى الصمود؟ وهل للكرامة أن تنتصر في زمن الانكسار العام؟ لقد صار الدفاع عن الإنسان وقيمته معركة يومية، لا يخوضها المحاربون وحدهم في ساحات النار، بل يخوضها المفكرون، والمبدعون، والمواطنون العاديون، في تفاصيل الحياة اليومية. إن الكرامة لم تعد ترفًا، بل ضرورة وجودية. في ظل المجازر المتواصلة في غزة، وتكالب المنظومات الدولية على الشعوب المقهورة، تتجلى الصورة واضحة: لسنا في صراع جغرافي، بل في معركة مصيرية تُحدّد مصير الكائن البشري فوق هذه الأرض. من هنا، تكتسب هذه الكلمات معناها. فهي ليست خطابًا عموميًا أو تكرارًا لمحفوظات سياسية، بل محاولة لالتقاط نبض التاريخ، من موقع الحرقة والانتماء، والوقوف في الصف الذي لا يتردد في أن يقول: لا.
عناد الطغاة.. والتمسك بالغنيمة
لا يعترفون بالهزيمة، بل يواصلون تعنتهم وصلفهم وعشقهم للغنيمة. لا يملكون أدوات الحقيقة ولا يشعرون بالذنب، لأنهم لا يعترفون أصلًا بوجود الآخر ككائن جدير بالحياة. هذه الصفات ليست تفاصيل جانبية في شخصيات الطغاة، بل هي بنية ذهنية كاملة، تُعيد إنتاج ذاتها عبر العنف والاستحواذ والتزييف. لقد عرفنا هذه النزعة المتغطرسة جيدًا من دفاتر التاريخ، ورأيناها تتجلى في مشاهد الاستعمار، والأنظمة القمعية، وحروب الإبادة، والنظم النيوليبرالية المتوحشة التي حولت الإنسان إلى شيء. لكن وحده الزمن، بكل مفارقاته وانعطافاته، قادر على كشف كل الألاعيب والمؤامرات. ليس من موقع الحياد، بل من موقع الانتصار الصامت لقيم الإنسان العميقة: الكرامة، الحرية، الحق. سنواصل السير على جمرات الواقع، غير آبهين بإنهاك الجسد أو تشظي الذاكرة. فالمعركة ليست خيارًا، بل قدر أخلاقي. الخروج من النفق الكبير لم يعد ترفًا، بل فعلًا نضاليًا لا يحتمل التأجيل. نحن أمام مفترق حاسم: إما البقاء في الظل، أو صناعة النور رغم الصعاب.
كل مشروع تحرري حقيقي، لا بد أن يتكئ على قيم التنوير والعقلانية ومناهضة الظلامية والتجهيل.
المشروع الوطني والدفاع عن المعنى
المدافع الجسور عن المشروع الوطني الديمقراطي بأفقه الاجتماعي، لا يرعبه العنف الرمزي أو المادي، ولا ترهبه حملات التشويه والتخوين. بل على العكس، كلما اشتد الضغط اشتدت عزيمته، وكلما حاولوا إسقاطه عاد أكثر وعيًا وصلابة. فهو محارب، لا من أجل السلطة، بل من أجل كرامة الفكرة. لقد أثبتت التجارب عبر التاريخ، أن الشعوب الطامحة للتحرر والإنعتاق لا ترهبها التضحيات الجسام ولا الخسائر في الأرواح والممتلكات. بل تُعيد صياغة صبرها، وتبتكر أدوات نضال جديدة. فكل دمعة تُسكب، وكل شهيد يُزف، يتحول إلى دليل على مشروعية المسار، وإلى وقود تستأنف به القافلة المسير رغم الصخر والأسلاك. ليست الحرية لحظة شعرية أو شعارًا بلاغيًا. إنها بناء طويل النفس، يتطلب وعيًا عميقًا، وصبرًا نادرًا، وإرادة لا تهتز. من يطلبها، عليه أن يتجرد من وهم الإنجاز السريع، وأن يؤمن بأن الانتصارات الكبرى تُصنع على مدى أجيال. من هذا المنظور، فإن كل مشروع تحرري حقيقي، لا بد أن يتكئ على قيم التنوير والعقلانية ومناهضة الظلامية والتجهيل. لأن الظلم لا يولد من العدم، بل من تواطؤ منهجي بين الجهل والقوة. ولهذا فإن أخطر ما تواجهه الشعوب اليوم ليس فقط الاستبداد، بل خيانة العقل، واستقالة النخبة، وتآكل الإيمان بالجدوى.
غزة.. بوصلة الكرامة وامتحان الضمير العالمي
يبدو أن الإنسانية في هذه المرحلة التاريخية تمر بأحلك فتراتها على الإطلاق. ربما لم يكن الدم يومًا رخيصًا كما هو اليوم، ولم يكن الكذب يومًا مشروعًا كما هو في هذه الحقبة. ولعل ما يجري في غزة من مذابح ترتكبها (إسرائيل) الغاصبة، بغطاء واضح من القيادة السياسية والعسكرية للإمبريالية الأمريكية، يمثل أقصى درجات الانحطاط الأخلاقي للنظام الدولي. هناك، تُغتال الحياة على مرأى من العالم، ويُعلن صراحة أن القانون لا يسري على الأقوياء. لم تعد غزة ساحة مواجهة محلية، بل أصبحت مرآة كونية تكشف حقيقة التواطؤ الدولي، وتفضح خواء الشعارات عن حقوق الإنسان والعدالة والمساواة. لم تعد القضية الفلسطينية مجرد ملف سياسي، بل صارت اختبارًا شاملًا للضمير الإنساني في لحظة تراجعه المروع. ليس هناك أي أفق للخروج من هذا النفق، سوى تحالف موضوعي حقيقي بين كل القوى السياسية والمدنية في العالم التي ما زالت تؤمن بقيم الإنسان، وبفكرة أن العدالة لا تُجزّأ، وأن النضال ضد الاحتلال والعنصرية والهيمنة الرأسمالية هو نضال واحد. إن التاريخ لا يتقدم إلا حين تلتقي الإرادات التنويرية الكبرى في مواجهة قوى الاستعباد. لا تحدث الطفرات التاريخية من فراغ، بل تولد من رحم المعاناة الجماعية، وتتغذى على وعي يتجاوز الفرد إلى ما هو جمعي. لهذا فإن معركة غزة ليست هامشًا، بل قلب المعركة الكونية على المستقبل.
الإنسانية في مواجهة العبودية المعاصرة
ستبقى الإنسانية تائهة في متاهتها، طالما أن القوى المؤمنة بأنسنة المجتمعات لم تتوحد بعد، ولم تُدرك أن لحظة الانفصال بين القيم والممارسة قد بلغت حدّ الانتحار الحضاري. ولأن الغد لا يُصنع بالخطب ولا بالمراوغات، بل بالوضوح والالتزام، فإن الواجب الآن هو تكتل العقول المستنيرة، والقلوب المؤمنة بالتغيير، في جبهة أخلاقية وفكرية ضد وحوش الاستغلال والاستبداد. الغد لا يُمنح. إنه يُنتزع. يُصاغ من وجع الناس، من تفاصيلهم المهملة، من جوعهم وصبرهم وأحلامهم المجهضة. الغد ليس لوحة طوباوية، بل نتيجة طبيعية لصراع تُخاض فيه كل المعارك: معركة الكلمة، ومعركة الشارع، ومعركة الذاكرة. كل من راهن على نسيان الشعوب أخطأ التقدير. وكل من ظن أن صوت الضحايا يخفت مع الزمن، لم يفهم معنى التاريخ. لقد بدأت الشعوب تفهم أن معركتها الأعمق هي مع إعادة تعريف ذاتها: لا ككتل انتخابية صامتة، ولا كضحايا دائمين، بل كأمم تصنع مصيرها وتعيد للكرامة معناها. ما بين مجازر غزة، وانتكاسات الداخل العربي، وتواطؤ المجتمع الدولي، يبقى الصوت الوحيد الجدير بالإصغاء هو صوت الإنسان الذي يقاوم، لا لكي ينتصر فقط ٫بل لكي يحتفظ بإنسانيته وهذا وحده انتصار عظيم.