تناهى إلى سمع قبّة الصّخرة التي نامت على قلق دام أمده أصوات عالية صادرة من الشيخ جرّاح.
التفتت من علٍ، فأبصرت مشهداً تتشقّق من هوله الأكباد، أبناء الحي وبناته، شيبه وشبانه يلتحمون مع القطعان الفالتة من عقالها، القادمة من شتات، يساندهم الجنود والآليات، طمعاً في سلب البيوت، بيوت الآباء والأجداد.
تفتت كبدها ألماً، وهمت دموعها مهراقة، ألقت نظرة عجلى على الصّخرة الموجودة في أحشائها، في قلب الأقصى، فصاحت: يا صخرة الأقصى كوني حجارة صغيرة، كوني ناراً ولهيباً محرقاً على بني إسرائيل. وتابعت موجهةً كلامها إلى مغارة الأرواح الموجودة قرب الصّخرة :
- يا مغارة الأرواح، يا من تحتضنين في أحشائك أرواح عشاق البذل، الأسخياء، الجوادين بالغالي والنفيس، شرّعي جناحيك، فالآن ستسجّلين أسماء الأبطال المنذورين للشّهادة المشتهاة في سنا جبهتك العالية، فالقوم قد قاموا، نفضوا عنهم غبار الوهن، لبسوا الأكفان، وما استكانوا في وجوه قطعان مغتصبة. قالت ذلك، ثم رنت إلى السّماء.
يا الله، إنّا نشكو إليك قلّة سلاحنا، ومصادرة سيوفنا من أبناء جلدتنا، وتكالب العدو علينا، وانقلاب الأخوة أعداءً لنا، فعدوّنا صديقاً صار عندهم، وصديقنا عدوّاً أضحى لديهم، انقلبت الموازين وضاعت البوصلة.
يا الله، افتح لنا بطن الأرض مدخلاً ومخرجاً لنا، لقد سدّوا أبواب البرّ والبحر علينا، وأقفلوا أبواب السّماء، فأضحينا محاصرين، لا حول لنا ولا طول، ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم فتت صخورنا حجارةً صغيرة، وسهّل ذلك على أشبالنا، رجالنا، بناتنا والنساء. نصرٌ منك تستعجله يا الله، يا حنّان يا منّان، يا رحمن يا رحيم، فأنت الذي طلبت إلينا أن نعدّ لهم: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ صدقت يا رب العالمين.
ما إن انتهت من دعائها حتى أبصرت صخور القدس، بل صخور فلسطين، كلّ فلسطين، تتشقّق بين قبضات فتية آمنوا بربهم، وبنصره لهم. وتتحوَّل زاد المقاليع التي أضناها الشوق إلى إصابة رؤوس المغتصبين، مدنسي المقدسات، محلَّي المحرمات، مصادري البيوت والأرض والممتلكات. وذرفت دموعاً غزيرةً وهي تستمع إلى شبل كان يعمل على كسر حجر صلد :
- عذراً يا عزيزي الحجر الكبير، فأنا لا أكسر رأسك، بل أنت تتوالد الآن حجارةً صغيرةً تعد بكسر رؤوسهم . عذراً يا حبيبي ، فأنا لا أمتلك سلاحاً غيرك ، فأسلحة الأعراب المتطوّرة تنصبّ على رؤوس أخوتنا الآن، عذراً، عذراً، عذرا .
لحظات قليلة مرّت، أشرقت بعدها عين القبة بدموع الفرح ، لقد آنست بأصوات الحجارة العازفة على خوذ المقتحمين أبواب الأقصى وساحاته ألحاناً شجيّةً. كانت الحجارة تردّد :
حجر، حجر، حجر، بالقدرة انتصر، على "أوسلو" حجر، على "عربة" حجر، وحجارة النّصر تنصبّ على صفقة العار ، صفقة العصر في عصر جديد وفجر جديد ( وَالْشفت والوتر وَلَيَالٍ عَشْرٍ ) سبحانك يا رب بعد هذه الليال سينكشف العسر
حجر حجر حجر
على رؤوس المطبعين حجارة، وحجر على آبار نفط مسلوب من أرضنا منذ زمن، حجارة بل حجر على رأس من يدفن سلاحه، على من أضاع بوصلة القدس ، وكرامة الأمة.
انفرجت أسارير الصّخرة القبة، وأعادت النداء :
اللهم افتح لنا طرق الأرض والسّماء، شقّ لنا في بطونها أبواباً مشرعةً على الأمل والنّصر والرجاء . وسرعان ما شرّعت الأرض أبوابها ، وكشفت عن مخبوءاتها، فالسّيوف المشتهاة وصلت ، وحجارة فلسطين الصّوانية قدحت، وتدافعت الصّواريخ مغرّدة، لبيك يا أقصى، لبيك يا قبّة النّصر القادم بهيّاً من غزّة وأخواتها .
لما راحت تدكّ أحلام الصّهاينة، وتقضّ مضاجعهم ، وتقفل على أحلامهم في البقاء، باتت القطعان خائفةً ، سكن الرّعب أرواحهم في الملاجئ العفنة .
وسط هذه الأناشيد التي تعزفها صواريخ العزّة، ارتفع صوت القبّة مناجياً الله :
﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) صدقت يا رب العالمين .
تنفّست القبّةُ الصعداءَ وهي ترى أبناء الأمة المباركين يصدحون بصوت واحد:
لبيك يا قدس، لبّيك يا أقصى، فراحت تردد قول الله:
﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُو السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .
سبحانك يا ربي ، فهؤلاء المباركون يصدحون من الأقطار القريبة والبعيدة : لبيك يا قدس، لبيك يا أقصى، لبّيك يا مقدسات فلسطين...
بعد ليالٍ عشر، هلّلت القبّةُ فرحاً ، فقد ارتسم هلال العيد شهباً منبعثةً من غزَّة هاشم، وأشرقت شموس الأرواح المتسامية المتسارعة إلى مغارة الأرواح ، يحتضنها الأقصى محناةً بدمائها، وأشرق النّصر بهيّاً على أرض فلسطين . عندها، وقف رجلٌ له مع الصهاينة حكايات عزّ ونصر، رفع بنانه وقال:
"مقدساتنا مقابل موتكم ورحيلكم القريب عن هذه الأرض"، وتابعه رجل من غزة نسج حكايات البطولة بالدمع والصبر والدماء وقال: النّصر لنا، وإن عدتم عدنا، والشكر لله، ولكلِّ من أشرق علينا من باطن الأرض بسيف، وصاروخ وحجر يقدح موتاً ولهيباً لأعدائنا. والشكر لك يا حامل لواء القدس، يا من سطعتَ على أرض غزة مع سيوفك الباترة.
أغمضت القبّةُ الصّخرةُ عينيها ، وراحت تستعيد خارطة فلسطين ، كلّ فلسطين بهيّةً، مطرّزةً بدماء شهدائها، محميةً بأرواح أمّة استفاقت وما نامت على ضيم ، ولن تنام بعد الآن على ضيم أبداً . ابداً . ابداً ...
قبريخا_لبنان .