لعشاق الفلسفة والأدب, كيف تقرأ شخصية الكاتب من مقاله؟
ثقافة
لعشاق الفلسفة والأدب, كيف تقرأ شخصية الكاتب من مقاله؟
28 نيسان 2023 , 07:11 ص

كنب الأستاذ سامح عسكر

كانت توجد مشكلة في النصوص قديما أنه لا يمكن العلم بشخصية كاتبها سوى بمعاشرته والعلم بأحواله ورؤية شخصيته واستطلاع نبرات صوته وحركات الجسد وانفعالاته إلخ، فكان يتم التعويض عن ذلك بفن الخطابة، وهو الذي كان يعبر عنه المُحامون والشعراء وأئمة المنابر والزعماء السياسيين..

أي لو كُنت عايش سنة 1000 م مثلا فلن تستطيع قراءة شخصية الكاتب من نصوصه إلا إذا رأيته يخطب، لكن هذا أصبح من الماضي لأن الفلسفة التحليلية وكافة فلسفات ما بعد الحداثة في القرن العشرين وفّرت هذه الميزة بعد التطور الرهيب في علم النفس ، وإيجاد العلاقة بين الدال والمدلول والدلالة ، والعلم بأصول الكلمات ومعرفة جذور الإنسان..إلخ

باختصار كي لا أطيل على حضراتكم فشخصية الكاتب تظهر من عدة علامات:

1- لو كان أديبا قصاصا فيظهر ذلك من عباراته بسهولة، لأن شخصية الأديب من السهل التعرف عليها بأسلوبه الممتع والخيالي والمجازي، وطريقة تصويره للشخصيات والأحداث المتعلقة بها، يعني سهل جدا تعرف شخصية الأديب من رسمه لأحد الشخصيات والمواقف التي تعتريها والتحديات التي تُجابهها، وأسلوب تلك الشخصيات المتنوع في الحوار.

مثال على ذلك "نجيب محفوظ" من السهل التعرف على شخصيته الثورية ضد الطبقية وانحيازه للكادحين ورجال الدين من رواياته، وكيف أنه يرى ويُبالغ أحيانا في شيطنة خصمه ووصمه بكل سوء ممكن للتأثير على قراءه وإمتاعهم بالإثارة، وهذا يعني أنه كي تتعامل مع نجيب محفوظ الإنسان يجب أن تكون حذرا في علاقاتك معه لأن تصوره للخصوم ليس منضبطا بشكل عقلي دائما وأحيانا يقدم عاطفته على الواقع المحسوس..

2- لو كان الكاتب فيلسوفا يناقش قضية ما أو يحلل ظاهرة ما ، فمن الصعب قراءة شخصيته قديما لكن بالأسلوب الحديث يمكن استطلاع (بعض) من جوانب شخصيته من اختيار كلماته وتركيب الجُمَل وعلامات الترقيم، فأنا مثلا أحب التنسيق للغاية وأهتم بعلامات الترقيم فمن السهل قراءة شخصيتي لكوني من محبي الجمال والنظام، وأن الدقة العلمية والفكرية لا ينبغي أن تكون على حساب التنظيم واللذة، بينما كاتبا آخر لا يهتم بعلامات الترقيم والتنسيق فتجده يسترسل في الشرح والسرد وهو في ظنه أن الكل يتعامل مع نصوصه كما يراها هو، وأن الدقة العلمية وحريته في السرد أهم لديه من الترقيم..

اختيار الكلمات وهنا علم الدلالة، فمعاني ومدلولات الكلمات في نفس الكاتب هي التي تعطي انطباعا نهائيا عن دلالة معانيه في نفوس قراءه، وقد شرحت هذه الجزئية في محاضراتي القديمة أن الكاتب لا ينتبه أحيانا لمعضلة (القابل والفاعل) فهو يظن أن القراء يستقبلون كلماته مثلما يتصورها..وهذا غير صحيح بالطبع، لأن استقبال الناس للكلمات والعبارات وفقا لقدراتهم الذهنية وحالاتهم النفسية والعصبية وحدود إدراكهم ومعلوماتهم..

انتقاء الكلمات يعبر عن شخصية الكاتب، فالذي يُكثر من عبارات الخطر والمبالغة في الخوف والانبهار والاندهاش والإعجاب غالبا ما يكون شخصا عاطفيا، وأن مقدار الضبط العقلاني في نصوصه ضئيل، خلاف ذلك من ينتقي كلماته بميزان العقل والواقع ويحاول أن لا ينجرف في تيار المبالغة وأحكام القيمة..فتجده حريصا في اختيار كلماته لتظهر بشكل أكثر تهذيبا وتواضعا، ومن تلك الجزئية يميل القراء للكاتب الذي يتحد مع نفسه فلا يختلف خطابه المسموع ونبرات صوته وحركات جسده عن طريقة سرده وكتاباته، فيشعر القارئ بصدق المحتوى ويميل تلقائيا للتصديق وأحيانا للانبهار بقدرة الكاتب على تعبير ما يجول في خاطره دون أن يكون له القدرة على ذلك..

3- لو كان الكاتب رجلا للدين فمن السهل التعرف على شخصيته في الواقع من أحكامه على الغير، فرجال الدين الذين يعيشون التسامح ويشعروه أقل استخداما لعبارات الكفر والهرطقة والعنف والحُكم على الغير، بينما يُكثرون في المقابل من استخدام عبارات الشكر والمودة والحب والإخاء، رجل الدين المتسلط يمكن التعرف على شخصيته من أحكامه وفتاويه المتشددة التي تكثر من المنع والتحريم والإقصاء..تراه يهاجم خصومه والناقدين له بقسوة ويتمنى القضاء عليهم وقتلهم وسجنهم، لكن رجل الدين المتواضع والمتسامح تعرفه من التنوع الغزير في معلوماته وطريقة سردها والحرص على عدم الحكم قيميا على أصحابها، فهو شخص متواضع لا يهتم بحال وصفة ذلك الشخص ولكن أفكاره..

وبهذه المناسبة كثيرا ما أهاجم ابن تيمية الحراني لهذا السبب، فقراءاتي للرجل تقول أنه متسلط عدواني متشدد في حياته الواقعية، شخص لا ينتقي كلماته ولا يأبه لمعانيها ومدلولاتها في الواقع، إنسان لا يُبالي بشعور الآخرين ولا حقوقهم الطبيعية ولا يهتم بردود أفعالهم ولا يتوقعها، ضعيف الخيال وتصور عباراته عمليا أو إمكانية تطبيقها، يحلم بمدينة فاضلة طوباوية تحقق كل تصوراته المريضة عن العالم التي يكون فيها ابن تيمية هو الإله والزعيم ، ولا يقبل بمنصب أقل من المرشد الروحي والمرجع الأعلى للبشرية..

شخص كهذا يمكن فهم لماذا لم يتزوج ويفقد أصدقاءه بسهولة، ولولا اتصاله بالسلطة السياسية ما عرفنا عن حالة شئ أو ورثنا تركته الثقيلة جدا على الأمة، فالسلطة السياسية كانت توظفه في صراعاتها الشخصية والعقائدية وهو كمتسلط كان يستجيب لتلك الدعوات دون أن يأبه لمنطقية وأخلاقية ما يحدث، وهذا سر من أسرار اضطراب فتاويه وتناقضها بشدة ومواقفه المتغيرة دون أن يكون حريصا على تفسير كيف حدث ذلك التناقض والاضطراب..

نأتي هنا لجانب عملي

جرّب مثلا أن تتحدث بصوتك المعتاد وأنت تُلقي عبارة نثرية أو علمية أو خطبة قصيرة موجزة، ثم وبسرعة حاول أن تكتب ما ألقيته في ورقة أو ملف ألكتروني، سوف ترى أنه وأثناء كتابتك للنص صوتك مسموعا في أذنك وبعد أن تنتهي من الكتابة وتعيد قراءة ما كتبته ستقرأ نصوصك بنفس شعورك بصوتك أثناء الإلقاء..

طبّق هذا على أي نص تقرأه وحاول أن تتخيل الكاتب وهو في حالة إلقاء عملي، وتضع احتمالات لنبرات صوته ولغة جسده، سوف تتعرف على بعض من جوانب شخصيته، والباقي في تحليل النصوص علميا وفقا لفلسفات اللغة أولا، والتعرف على شخصية الكاتب (حياته – موته – علاقاته السياسية والاجتماعية – صراعاته) من جانب آخر، فإذا وجدت خيالك الأول في تصورك لحالته أثناء الإلقاء متفقا مع تحليل نصوصه تبعا لفلسفات اللغة مع حياته الواقعية وسيرته الذاتية فأنت قد شاهدت وتعرفت على الكاتب بشكل كبير، وتبدت لك صورته في الواقع حتى أنك تراه في المُخيّلة يتحرك رغم موته منذ مئات السنين..