كتب الناشط السياسي
محمود موالدي
تتصدر الأوساط الإعلامية والتحليلية على اختلاف مستوياتها صور الحرب الروسية الغربية في أوكرانيا، فالاشتباك المعتمد من حيث جوهره ومضمونه هو صراع نفوذ وإثبات أحقية المصلحة لكل طرف، بيد أن العقلية الروسية تجاوزت حالة حرب النفوذ والذهاب لتحييد الدور الغربي بشكله العام ومحاولة لفرض نظام متعدد المصالح والأقطاب بحكم الحاجة، فالحرب الحديثة لا تأخذ البعد الميداني ومده اللوجستي فحسب بل...، تتجاوز حد القرار السياسي والبعد الشعبي، وتثبيط ردات الفعل الغارقة بأزمات التاريخ،
• حرب الدعاية والإعلام
أدركت القيادة الروسية منذ بداية الحرب، قدرة وسعة العدو الغربي وسطوته الإعلامية، فكانت البدائل متوفرة والاعتماد على الشبكات التواصل البعيدة عن السيطرة الغربية وشبكات الإعلام النمطي المختلفة عن الأثير الأمريكي ، متسلحة بأحقية القضية ودوافعها الإنسانية والالتزام المطلق بالشفافية بنقل الخبر وإظهار الرأي والرأي الآخر، كما أن توضيح حقيقة الصراع وإبعاده وما يراد منه من تحقيق مصالح الغرب على حساب الشعب الأوكراني، والذهاب به نحو حرب طويلة لستنذاف مقدراته .
•حرب المواقف السياسية في المحافل الدولية
بعد نجاحاتها المتكررة في العديد من المواقف الرافضة للمشيئة الأمريكية، نجحت الدبلوماسية الروسية من تغريغ روايات الساسة الغربيين واعتماد البرهان والحجة في قضية تحمل بعدها القومي بغطاء أنساني، وفرضت بذكاء جدلية وجهة النظر في المحافل الأممية والدولية، كما أنها رسخت مفهوما جديدا للتحالفات مع دول رافضة للهيمنة الأمريكية بشكل خاص والغربية بشكل عام، متسلحة بذلك على التاريخ الاستعماري للدول الغربية وإسقاط منطق المسلمات للدول العظمة، لتضع أساسا جديدا لجدار جبهة الشرق المدعوم من الشعوب الشرقية التي عانت من ويلات الاستعمار الغربي وانعكاسات الحقبة الاستعمارية، فعمدت على توسيع تحالف دول (بركس) بشكل يضمن زخمه السياسي والاقتصادي مع حصيلة الأكثرية.
• حرب المصطلحات الجديدة
يعتمد المسؤولون الروس وعلى رأسهم الرئيس بوتين مصطلحات جديدة لمخاطبة الرأي العام وتحميل الغرب المسؤولية المطلقة على نتاج الحرب، فمن تكرار منظومة عالمية جديدة، إلى استحضار الخطابات التي كانت تستخدم في الحرب العالمية الثانية ضد دول المحور وداعمي النازية الألمانية، وصولا لتوصيف الغرب بشكله المطلق (بالأقلية الغربية)، حتى الدعوات لنشوء (أوراسيا) جديدة كانت بمثابة انقلاب ذهني على الخطابات السياسية السابقة.
•الاعتماد على الطبيعة الإنسانية
في النشوء والقدسية.
تبقى خطابات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واضحة في مهاجمتها الرذيلة الغربية وانسجامه مع الأديان السماوية في محاربة التوحش الغربي المطرد لإنهاء العنصر البشري من خلال إباحة المثلية والدعوات الغربية للتفلت الكامل للمجتمعات، تعتمد القيادة الروسية على هذه الحقيقة في تثبيت دعائم حربها مع الغرب المتوحش، لتلقى خطابات الرئيس الروسي صدى إيجابيا في الشارع العربي والإسلامي وارتياح واسع لدى الشعوب الشرقية، إنه الاعتماد على الطبيعة الإنسانية وقدسية نشوئها.
• حروب الاقتصاد والطاقة
تذخر روسيا الاتحادية والدول المنضمة في قوامها بالوفرة الكبيرة في مصادر الطاقة والمعادن وأنواع مختلفة من المواد الأساسية لصناعة بشقيها الصناعة الغذائية والتحويلية، وعلى قدرة كبيرة في التسويق واحتكار الأسواق العالمية، لتكون الطاقة ورقة حرب ضاغطة بيد القيادة الروسية على الغرب وحلفاء العم سام فالأسواق الغربية استهلاكية للطاقة بطبيعتها ويعتمد إنتاجها على مخزوناتها من الوقود على مختلف أنواعه، لكن التقطير الروسي للطاقة جعل من الصناعة الأوروبية تعيش مرحلة عدم استقرار مما جعل ارتفعت الأسعار وكثر الطلب على موارد الطاقة المترافق مع العجز الكبير في المخزون الضامن لستقرار سوق النقد والتضخم الكبير التي تعيشه الولايات المتحدة الأمريكية المرافق مع رفع سعر الفائدة وإشهار عدد كبير من المؤسسات المالية إفلاسها، فيما بقيت المنظومة الروسية في حالة ارتياح في السيولة النقدية والتبادل النقدي، نتاجا لوفرة المخزون الضامن في البنوك الروسية والحفاظ على الكتلة الذهبية، فيما يعتمد حلف الشرق الجديد على مفاهيم الاقتصاد الشرقي الذي يعتمد بدوره على الوفرة الكبيرة في الإنتاج من خلال اليد العاملة وانخفاض تكلفتها والزراعة والصناعة والاكتفاء بالواقعية الاقتصادية، على عكس الغرب المتمسك بمنهج الفرضية المالية من خلال الاقتراض والافتراض في الأسواق المالية.
• الحرب العسكرية بالطريقة التقليدية
لقد طور الروس البنية العسكرية التقليدية لتنسجم بشكلها العملي مع متغيرات التوازن العالمي، مع الحفاظ على القدرات الضخمة الموروثة من الحقبة السوفيتية إلا أنها تماهت بحد كبير مع احتياجات الحروب الجديدة، فإذا كان العنصر البشري في جيوش الشرق هو القاعدة الحية لأي حرب، فإن روسيا طورت من عقيدتها العسكرية وغيرت أسلوب مقاتليها، وانتقاء النخب المهمة لصناعة فرق عسكرية تعتمد على حرب المدن ذات المهام الخاصة وخفيفة الحركة بينما يبقى الرادع الاستراتيجي الكبير في القدرات الجو فضائية وما تحمله من ذخائر نووية تكتيكية والصواريخ الفرط صوتية، إن هاجس البحار كان متلازم القادة الروس منذ التاريخ ليشمل التطور القطاع البحري والاعتماد على الحركة الخفيفة والمتوسطة بأقل كلفة لنظريتها من جيوش الغرب، والتحكم السيطرة على منافذ البحار الخمس المعدة لتكون شريان النقل البحري لجبهة الشرق الواعدة. إن الحرب على الجغرافيا الأوكرانية آخذة بالتصعيد الكبير من جانب دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، من خلال ضخ السلاح والذخيرة المختلفة والمرتزقة الأجانب، لكن التجربة الروسية في سورية كان لها دورها البارز في حركة المعركة وميدانها، ليعتمد الجيش الروسي على قوات حليفة شبهة عسكرية (فاغنر) على سبيل المثال و اعتماد على التنقل السريع بشكل القضم الجغرافي وخلق مربعات الموت للوافدين الغربيين من مرتزقة وسلاح، ما جعل الأصوات الغربية تعلو بسبب ارتفاع تكلفة الدعم المالي والعسكري لنظام الأوكراني ويزيد من استجداء (زيلينسكي) بالدعم الكبير، إن الحرب بمفاعيلها آخذة بالتصعيد خطوة بخطوة نحو حقيقة واضحة هي اشتراك الجميع في الحرب وبشكل مباشر دون وكالات مما يدخل العالم لحرب كبيرة ينتج عنها نظام عالمي جديد مكرس لنتائج هذه الحرب
• النتاج الروسي
علينا أن نعرف طريقة تفكير القادة الروس في قيادة أي حرب وخاصة إذا كانت تحمل طبائع تاريخية ودوافع قومية و تحقيق المصلحية، فالنتاج الروسي لا يعتمد إلا على خيارين هما، إما تقسيم أوكرانيا مع استبدال نظامها النازي مع ضمانات كافية لحماية المصالح الروسية وإبعاد الناتو على الحد الآمن للروس والاعتراف بما تم ضمه لقوام روسيا، وإما هضم الجغرافيا الأوكرانية تحت العباءة القيصرية الجديدة وجعلها قاعدة متقدمة لموسكو في مواجهة النفوذ الغربي، في الخيارين انتهاء للكينونة الأوكرانية
فيما يزيد التعنت الأمريكي مع إدراكه على الخسارة الحتمية للنظام الأوكراني، ليضمن بذلك استنزاف القدرات الروسية، وفي حال امتدت الحرب لفترة زمنية طويلة سيتحول المشهد برمته إلى كتل نارية مشتعلة بين الشرق والغرب وتتحول موسكو لجبهة متقدمة في مواجهة الغرب بدعم صيني منقطع النظير ومن خلفها دول التحالف الشرقي، وتفرز بذلك المصالح العالمية بين الشرق والغرب وتعاد حسابات جديدة على مستوى العالم.