من الصعب تصور براءة الولايات المتحدة , وبأنها كانت تنظر إلى روسيا على أنها جزء من الحضارة الغربية , وسعت من خلال إتفاق روما لخلق تكامل غربي ثلاثي يجمع العالم الأنجلو ساكسوني (الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والكومنولث) والعالم الأوروبي وروسيا , بأنها انقلبت فجأة , واجتهدت عبر عدة سنوات من العمل الخفي , لإحداث تغييرات في البنى السياسية لعديد من الدول الأوروبية وصبغها باليمين والتطرف وإيصال مؤيديها , ومن ارتضوا الإنصياع إلى إملاءاتها , وعملائها , إلى سدات الحكم كما حدث في أوكرانيا عام 2014, كذلك ما حدث في الفترة الماضية في السويد وإيطاليا وفنلندا , ومؤخراً في اسبانيا أيضاً , وعلى أكتاف هؤلاء تقود اليوم حرباً أطلسية غربية شعواء ضد روسيا في أوكرانيا.
وما نراه اليوم لا يبدو وليد اللحظة , فقد خططت واشنطن لما بدأته في أوكرانيا عام 2014 , ولم تترك أمام موسكو سوى خيار تنفيذ عمليةٍ عسكرية خاصة في أوكرانيا , لحماية حدودها وأمنها القومي وشعبها , وإلى عملية "تصحيح التاريخ" , فيما احتاجت واشنطن إلى عشرين عاماً من التاّمرٍ الغربي على روسيا , وتحالف الناتو ودول الإتحاد الأوروبي وبريطانيا , لخلق فرصة "تدمير روسيا , والإقتصاد الروسي" – بحسب ما صرحت به ليز تراس رئيسة وزاء بريطانيا السابقة.
ومن خلال العدائية التي أظهرها الغرب لروسيا , كذلك من خلال إصدار حزم العقوبات المتتالية والمستمرة , ومن خلال الجنون الغربي , وخصوصاً لدول الإتحاد الأوروبي - جيران وشركاء روسيا في أوروبا - , في إنخراطهم بالوكالة في الحرب الأمريكية على روسيا , ومن خلال الدعم المطلق لنازيي أوكرانيا بقيادة المهرج زيلينسكي , من تمويل , وتسليح بأسلحة تقليدية ونوعية متطورة بما فيها الطائرات المسيرة , وأنظمة الدفاع الجوي الأمريكية الصنع من طراز باتريوت , والدبابات الحديثة وعلى راسها دبابات الليوبارد 1و2 الألمانية , وغيرها , استطاعت واشنطن أن تنسف الجهود الروسية عبر العقدين الماضيين التي بذلتها من أجل تطبيع العلاقات مع الغرب ووفق إعلان روما , وضمنت عداءاً روسياً – أوروبياً , من خلال الإعلان الرسمي للناتو وبأن "روسيا تشكل تهديداً رئيسياً له".
إن المخطط الأمريكي ضد روسيا , لم يكن المخطط الوحيد , ولم يكن لينجح , لولا المخططٌ الأمريكي "لإخضاع أوروبا" , والذي عملت لأجله منذ نهاية الحرب العالمية الأولى ، وقتما اجتهدت ونمت أوروبا على كافة الصعد , وأصبحت واحدة من أكثر المناطق تطوراً في العالم , لكن الحرب العالمية الثانية لعبت دوراً صب في مصلحة الولايات المتحدة ، وأدى من حيث النتيجة إلى إضعاف كافة الدول الأوروبية , وكذلك الإتحاد السوفيتي السابق.
وخرجت ألمانيا الغربية من الحرب منهكة ضعيفة مقسمة ، وكذلك كان حال فرنسا وإيطاليا وبريطانيا "العظمى" , وتحولت إلى دول غير مستقرة سياسياً , سقطت بسهولة في القبضة الأمريكية , التي عرضت عليهم "الشراكة المتوحشة" سياسياً وإقتصادياً وعسكرياً , على أن تكون شرطي العالم , والحامي الأول للمصالح الأوروبية , والضامنة لخلاصهم من النازية , فكان الإعلان عن تشكيل الناتو وخطة مارشال , الذان سمحا للولايات المتحدة بإخضاع أوروبا , وتحويل دولها إلى ساحةٍ خلفية لإقتصادها ومصالحها , وإلى حرس حدود في مواجهة الإتحاد السوفيتي.
اليوم ، وبفعالية كبيرة تستخدم الولايات المتحدة الإتحاد الأوروبي في حرب مختلطة ومباشرة وبالوكالة ضد روسيا , فكان من نتائجها الأولية أن لحقت بألمانيا وفرنسا وإيطاليا ودول أوروبية أخرى , خسائر اقتصادية فادحة بشكلٍ مباشر, وبخسائر إضافية نتيجة اندفاعهم وراء الإملاءات الأمريكية , وبفرض العقوبات على روسيا , والتي كان من أهم نتائجها تدمير "السيادة" الأوروبية , وتعطيل استقلالية قرارها في قطاع الطاقة , وحريتها في إختيار مصادر توريدها , ناهيك عن الخسائر في غالبية االقطاعات الإقتصادية والمالية والعسكرية.
وبدأت الولايات المتحدة بإصطياد الشركات الأوروبية الكبرى الواحدة تلو الأخرى , ووتنقلها ورؤوس أموالها إلى الأراضي الأمريكية , وتترك ما تبقى من الأراضي الأوروبية لتتحول إلى قاعدة عسكرية كبيرة لمواجهة روسيا.
بعد مضي أكثر من عام على المواجهة الأوروبية بالوكالة الأمريكية في أوكرانيا , يمكن سماع صوت الأنين الأوروبي واضحاً وعالياً , وهي تظهر الشيء الكثير من الإرتباك وربما الندم , وتحاول أن تتلمس طريقاً وطوقاً للنجاة , و"يحاضر" الرئيس الفرنسي من خلال جولاته وزياراته , وتصريحاته الإعلامية وتلميحاته , للتعبير عن الرغبة الأوروبية بالخروج من تحت القبضة الأمريكية , ولتلمس طريقها الخاص , لكنه كغيره من الأوروبيين لا يجرؤ على التحليق خارج "السرب" الأمريكي , ونراه يبحث عن فتات المائدة الروسية – الصينية في زيارته إلى منغوليا معقل النفوذ الروسي والصيني , ويطرح السؤال نفسه , هل زارها من تلقائه أم من خلال "فروضه" الأمريكية لإستفزاز موسكو وبكين , أم للتقارب معهما بعيداً عن حدود القارة الأوروبية ؟.
أخيراً ... لا يوجد طوقاً للنجاة وبدائل حقيقة أمام الأوروبيين , سوى التوقف عن الجنون , وإنتظار الإنتصار العسكري الأوكراني - غربي الأمر الذي لن يحصل أبداً , وعليها أولاً تطهير نفسها من اّثام العداء غير المبرر والتاّمر على روسيا وشعبها وتاريخها وحضارتها , والخروج من بيت الطاعة االأمريكي , ومشاركة روسيا والصين وإيران ودول البريكس وعشرات الدول حول العالم , في صناعة التاريخ الجديد , وبقيام النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب , بعيداً عن الهيمنة الأمريكية , وحيث يسود السلام , وتوقف انخراطها في الحروب العبثية , كي تستعيد كافة الدول الأوروبية ثقتها بنفسها أولاً , وتسير على طريق استعادة سيادتها وإنعاش إقتصادها , وإلاّ فسيبقى مصير الدول والشعوب الأوروبية رهينة أهواء وحماقة مخططات الدولة الأمريكية العميقة.