هندسة الجريمة ضد عرب 48، و
دراسات و أبحاث
هندسة الجريمة ضد عرب 48، و"التقرير الاستراتيجي "الإسرائيلي" لسنة 2022"
أحمد أشقر
17 تموز 2023 , 20:30 م


كتب الأستاذ أحمد أشقر

بات من الواضح لكل من يتابع أخبار مسلسل الجرائم واستفحالها في السنة الأخيرة بين عرب 48 أن هذا المسلسل ما هو إلا هندسة سياسية- اجتماعيّة من قبل السلطة المركزيّة، أي الدولة، تنتهجها من أجل تحطيمهم من الداخل والقضاء على معنوياتهم وبقايا شعورهم بالأمن والأمان الشخصييّن لتصفيّة أية محاولة من قبلهم للنضال، والاحتجاج على أية ممارسة تقوم بها الدولة ضدّهم أو اصلاح أوضاعهم، حتى ولو كان إصلاح ترجمة امتحانات "البجروت/ الثانويّة العامة" من العبريّة للعربيّة بلغة عربيّة سليمة- كما حدث هذه السنة على الأقل! فالدولة استخدمت اللغة العربيّة ولا تزال كأداة ضبط وتشويه وعي العرب، تجلّى ذلك بقيام قانون القومية لسنة 2018 بإلغاء مكانة اللغة العربيّة كلغة رسمية في فلسطين، الأمر الذي سيكون له تبعات كبيرة على تشكيل وعي زائف بواسطة اللغة العبرية- اليهوديّة- هذه هي حلقة آخرى في مسلسل هندسة لغة الجريمة وخطابها. لذا لا يزال ملف اللغة العربيّة بأيدي المخابرات (نتان ماندل- لغة خارج مكانها 2020 (الترجمة العربية 2023)، والعقيد الاستخباراتي أفي شليف- يوميات القاسمي 2021). فهندسة الجريمة، تتكون من مروحة واسعة، نشطة وفعّالة جداً من الممارسات المتعمدة، بدءا بالإهمال وإنتهاءً بالتخطيط وتصفيّة الناس تصفيّة جسديّة.

عند الحديث عن هندسة الجريمة بين عرب 48 يجب التوقف عند المحطات التاريخية- السياسيّة التالية، لأن التاريخَ بالتاريخِ يُقرأ، والمُستقبل يحاول تجاوز فشل التاريخ وإخفاقاته وما أكثرها:

المحطة الأولى- في سياق الحديث عن العنف والجريمة السياسية المنظمة، لا يزال عرب فلسطين يتذكرون موجة العنف التي رافقت إفشال ثورة 1936 من قبل الاستعمار البريطاني، المُستعمرون اليهود، الأنظمة العربية وضُعف البنية الثورية العربيّة في فلسطين التي أفرزت قيادات ضعيفة، متواطئة وعميلة. فبعد سنة ونصف من اندلاع الثورة أدرك البريطانيون واليهود ضرورة تحويل عنف الثوار العرب الموجه ضدّهم، إلى عنف موجه ضدّ العرب أنفسهم، مُستغلين بذلك ضعف البنية الاجتماعية والوعي القومي، والخلافات والصراعات بين النخب السياسية، والفقر الذي أفرزه الإضراب الشهير الذي أدى إلى تدمير غالبيّة البنيّة التحتيّة الجنينية في فلسطين، والصراع بين الريف والمدينة، هذا ناهيك عن العنف والإرهاب الذي مارسه البريطانيون واليهود معاً ضد العرب. من هذه الخلفيّة أقدم أحد أبرز المتعاونين مع الإنجليز، راغب النشاشيبي (1880- 1951)، بتشكيل "فصائل السلام" المسلحة سنة 1938، لمطاردة الثوار، ثم انضم إليه فيما بعد ابن أخيه، فخري النشاشيبي (1889- 1941) الذي تحوّل إلى الشخصيّة الأشرس في هذا السياق. فهذه الفصائل، أو العصابات، على وجه الدقة مارست العنف عدة سنوات حتى بات كل من العنف والجريمة وكأنهما الممارسات الوحيدة تقريباً في أحداث الثورة المذكورة كما كانت تبدو في ذاكرة من عاصروها. فالهدف كان إرهاق الناس ودفعهم للقبول بأيّ مشروع يطرحه الإنجليز واليهود. وهذا ما حصل فعلاً؛ فعرب فلسطين (وجيش الإنقاذ) لم يتمكنوا من صدّ العدوان المُكثف الذي شنه اليهود في سنة 1947 والذي أدى إلى النكبة. (ومن يريد أن يفهم أكثر عن الضرر الذي ألحقه الإضراب الشهير بالزراعة، والصناعة والتجارة الخارجية وتدمير ميناء يافا، عليه أن يقرأ خطاب بن جوريون الذي ألقاه في المؤتمر الصهيوني سنة 1937 والذي يسخر فيه من هذا الإضراب ويؤكد أن لولاه لما قامت الحركة الصهيونية ببناء ميناء تل أبيب. بالمناسبة: الخطاب موجود بلغة عربيّة سليمة جداً!).

استمرت عمليات الثأر التي خلفتها هذه العصابات حتى سبعينيات القرن الماضي. ولا يزال بعضها يلقي بظلال سوداء على علاقات بعض العائلات. تدفعنا هذه المعطيات والسياق إلى إعادة قراءة أحداث ثورة 1936، وتحديداً اضرابها الشهير (والإضرابات التي تتكرر إلى يومنا الراهن، دون مراكمة أية قيمة أو مفهوم نضالي. فقد باتت هذه الإضرابات عُطلات وإجازات مدمرّة لطلبة المدارس والجامعات- تحديداً، واسترخاء الكسالى من بقيّة المجتمع، تحديداُ الذين يعتبرون هذه الإضرابات عملاً نضاليّاً).

تم اغتيال فخري النشاشيبي سنة 1941 في العراق من قبل "المجلسيين"، أتباع المجلس الإسلامي الأعلى، الذي ترأسه المفتي الحاج أمين الحسيني. كان راغب ووجيه آخر من العائلة، جواد، متزوجين من امرأتين يهوديتيّن. فزوجة راغب كانت يهوديّة من أصول يمنيّة، وزوجة جواد هي (إستر فاينر) ابنة شقيقة الأديب (ش. ي. عجنون 1888- 1970) الذي مُنح جائزة نوبل للأدب سنة 1973. هل يجوز لنا إجراء مقاربة بين هاتين المرأتين و(سارة أرونسون 1890- 1917) عشيقة جمال باشا السفّاح (1872- 1922)؟! (عن هذه السنوات كتب الأديب ممدوح عدوان رواية تاريخية رائعة جداً بعنوان أعدائي). كما قدم الباحث محمد دلبح تحليلاً هاماً عن هذه الظاهرة وتداعياتها التي لا يزال عرب فلسطين يعانون منها في كتابه، المسكوت عنه في التاريخ : من فصائل السلام العميلة للاحتلال البريطاني... إلى فصائل التنسيق الأمني مع الاحتلال الصهيوني 2022.

في سياق الحديث عن عصابات السلام من سنة 1936 ودور بعض العائلات، نتذكر أن هذه العصابات لم تقترب من ريف جبل الخليل، بسبب دور عائلاته التي لا تزال تحافظ على عهود واتفاقيات دفاع مشترك ضدّ كل غريب يحاول الاعتداء على هذه القرى/ العائلات أو خلخلة السلم الأهلي من الداخل- لا تزال موثقة وفعّالة إلى يومنا الراهن.

المحطة الثانية- يمكننا التأكيد على أن الاحتلال الاستعماري هو أبو آباء الهندسة الاجتماعية للجريمة. فبعد النكبة سنة 1948 كان ما تبقى من عرب فلسطين مهزومين ومُحطمين إلى أبعد حدّ، فعملت الدولة على تثبيت نتائج كل من ثورة 1936 والنكبة بالسيطرة على الحيّز الحضري والعمراني (urban space)، وأزمة السكن والخرائط الهيكليّة، ومنع تشكل الفضاء العام (public sphere) للمناطق المحتلة وسكانها بالمفهوم الذي طرحه (هبرماس). ومنذ تلك الفترة ودولة الكيان تعمل من أجل التضييق عليها حتى باتت غير صالحة للعيش الآدمي بكرامة وأمان. فالدولة المحتلة، إسرائيل، أحكمت سيطرتها بالكامل على مصادر الثروة: الأراضي، والمياه، وسوق العمل وديناميكيات تشوه الوعي واستلابه بواسطة أجهزة التعليم الحكومي والإعلام والمخابرات وسيطرتها عليها وتحديد سقف العمل والنقاش السيّاسييّن وبثّ الرعب في نفوس الناس نتيجة تبعيّتهم لها وتشكيل شبكة العملاء التي بنتها؛ الأمر الذي ساعد على إفراز 'مسببات داخليّة' للعنف وإهمال الحديث عنه للحدّ منه على الأقل. فالسيطرة على الحيّز والفضاء العامّين شكلت المعول الأول لتدمير العائلة العربيّة كمقدمة لتدمير المجتمع وجعله في أزمة مفتوحة دائمة (تطرقت إلى ذلك في مقالتي "منهجية وأساليب تدمير العائلة العربية" في: العائلة الفلسطينيّة، دورها ومستقبلها، بحوث المؤتمر السنوي الرابع/ مركز دراسات التراث والمجتمع الفلسطيني 2010). على هذه الأرضية تنشأ عمليّاً الجنح والخطايا الصعبة كالسرقة والاعتداء على الممتلكات، كذلك الطوشات العائلية والطائفية وجرائم القتل. تندرج في هذا الباب خطة "السياج" وتجميع العرب في النقب على أقل من 8% من مساحة أرض النقب الأصليّة ومحاولة تهجيرهم- إعادة تجميعهم عدة مرات حتى الآن. كذلك تهويد الجليل وأحداث يوم الأرض وقتل العرب الستة سنة 1976، ومسلسلات مصادرة الأراضي، والقرى مسلوبة الاعتراف، ومشاكل الخرائط الهيكليّة والبناء غير المرخص، والغرامات الإداريّة التي أنتجها "قانون كمينيتس". أما تهويد الجليل الذي تخطط له الحكومة الحاليّة فيندرج ضمن باب حرب قادمة مع حزب الله.

المحطة الثالثة- بعد النكبة مباشرة، وتحديداً بعدما أعادت سلطات الاحتلال من لبنان عميلها، المطران حكيم، رأس هرم الكنيسة الكاثوليكيّة في حيفا وسائر الجليل، أوكلت له مهمة التصدّي للشيوعيين العرب، تحديداً الأرثوذوكس منهم الذين كانوا يشكلون القِوام العربي (المسيحي) للحزب الشيوعي. فعمل حكيم على تسميم الأجواء بين العرب، المسيحيين والمسلمين، بالنعرات الطائفيّة، إضافة لتعاونه السافر والسافل مع دولة الإحتلال، ومحاولته إقناع ما تبقى من سكان قرية ترشيحا القبول بالتهجير الطوعي، أقام "حركة كشفيّة منافسة لشبيبة ماكي [الحزب الشيوعي الإسرائيلي]"، التي تم التخطيط لها أن تكون مليشيا ضاربة، "فالمسيرات التي نظمتها الحركة الكشفيّة الكنسيّة في الأعياد والمناسبات في قرى الجليل صارت ساحة للصدام بين الطرفيّن"، وفي مواجهتَين 'قُتل' نعمت القاسم من الحارة الشرقية في الناصرة (أيار 1952) وسهيل زريق من عيلبون (تشرين 1952) (الاقتباسان والمعلومات عن المطران حكيم من كتاب عادل مناع نكبة وبقاء: حكاية فلسطينيين ظلّوا في حيفا والجليل (1948- 1956)). عن توقف استخدام حكيم والمليشيا التي شكّلها، لا يفيدنا كتاب مناّع بالكثير، لأنها ليست مهمة الكتاب. لكن سبر أغوار ملف المطران حكيم وموبقاته بحاجة للعودة إلى أرشيفات الكنيسة الكاثوليكية في فلسطين، ولبنان، وسوريا والفاتيكان، والدولة السوريّة التي انتقل أو أُبعد إليها من قبل الفاتيكان تحت ضغوط داخليّة وخارجيّة مثل الكنيسة الأرثوذكسيّة. في هذا السياق نقول ما يلي: كان للكنيسة الكاثوليكية ولا يزال دور هام بالتضييق على الحيّز العمراني ومنع تطور الفضاء العام، الذي أشرنا أعلاه بأنه منتج الخلافات بين الناس وانتشار الجريمة، لأنها وبدل أن ترصد ثرواتها الكبيرة وأراضيها وهي شاسعة جداً، لصالح "أبناء الطائفة" آثرت بيعها وتأجيرها لفترات تصل أحياناً إلى ألف سنة. نعم ألف سنة! لليهود ومؤسسات الدولة. هذا الأمر ينطبق أيضاً على الكنيسة الأرثوذكسيّة. يزداد صوابُ تحليلنا لدور الكنيستين المذكورتين، عندما نقرأ الحاضر بالتاريخ، ونتابع ردود أفعالهما على الاعتداءات المتكررة على المقدسات المسيحيّة التي تجاوزت الـ150 حادثاً في السنوات الخمس الأخيرة. فهدف المُستعمرين اليهود هو الأراضي الشاسعة للكنيستين اللتيّن ترفضان تخصيص جزءا من أراضيهما لحلّ أزمات سكن الرعيّة والشعب- كما ترد في أدبياتهما اللاهوتيّة والرعويّة؛ ناهيكم عن العداء العقائدي الذي تكنّه اليهوديّة للمسيحيّة. فمحاولة استيلاء عشرات من اليهود الأصوليين على كنيسة مار إلياس وصفها مستشار رؤساء الكنائس في الأرض المقدسة، وديع أبو نصار، بالقول: "[...]، لكن الاعتداء لم يكن بمعنى اعتداء على الممتلكات إنما استفزازات عن طريق القيام بحركات مشبوهة" (موقع عرب 48 بتاريخ 14. 6. 2023). ماذا نسمي هذا؟ صمتاً، تواطؤاً أما ماذا؟ وعندما ندرك دور الكنائس بما حلّ بمسيحيي العراق وسوريا، يمكننا فهم ما (لا) تقوم به الكنيستان المذكورتان. في سياق قصة المطران حكيم، نذكر (أيضاَ) أن الدولة سيطرت على أملاك الوقف الإسلامي، ولا يزال كثيرون منّا يذكرون قصة هروب سهيل شكري من البلاد بأموال الوقف في حيفا في أوائل تسعينيات القرن الماضي (ملفات مقاومة هذه القضية موجودة لدى الأستاذ فتحي فوراني).

المحطة الرابعة- بات من الواضح أن الدولة هي التي أسهمت في هندسة الجريمة بعد مجزرة أكتوبر 2000 عندما سلّطت على عرب 48 كتائبها من العملاء المطرودين من الضفة وغزّة في الانتفاضة الأولى وبعدها. تتناقل وسائل التواصل الاجتماعي ما يلي عن السيّد عبد عنبتاوي الذي التقى ضمن وفد من لجنة المتابعة في الثالث من تشرين أول/ أكتوبر 2000، رئيس الحكومة (إيهود براك) ورئيس الشباك (أفي ديختر) في حينه والذي قال: "ستدفعون الثمن [عن المظاهرات] غاليّاً. ما لكم أنتم والضفة والأقصى؟ سيأتي وقت تكونون فيه عالقين بينكم وبين أنفسكم". يفهم الذين يتناقلون هذا التصريح على أنه تهديد، أي هندسة الجريمة كما تبدو الآن. لكني أعتقد بوجوب قراءة هذا التهديد قراءة مختلفة بعض الشيء، أي اعتباره إعلاناً عن خطة المؤسسة لهندسة الجريمة. لذا دعونا نرتب الأمور على النحو التالي: في السادس من أكتوبر 2000 كشف المحلل العسكري لـ(هآرتس)، (زئيف شيف) وفي خضم المجزرة عن أمرٍ في غاية الأهمية، وهو أن الحكومة فحصت إمكانية تنفيذ المجزرة بأقل كم من الخسائر لها. ولأهميّة ما ورد فيه، كنت قد ترجمته واقتبسته بالكامل في مقال (من احتجاز التطور إلى الطرد عن المركز: مصلحة "إسرائيل" تكمن بمنح عرب 48 الأوتونوميا، 2002)، ولأن أهميته باتت راهنيّة جداً، أكرر مرة أخرى، هنا، اقتباسه بالكامل: "الأحداث الأخيرة التي حدثت أثناء الاضطرابات الأخيرة في قرى الأقليات، و(أيضا) في المدن المختلطة مثل يافا [سنشرح لاحقاً أهمية هذه المدن في الصراع]، تم التنبؤ بها أثناء التمرين متعدد المشتركين، والذي سمي "روح العاصفة" والذي تم إجراؤه في السادس من أيلول من هذه السنة [قبل 23 يوماً من بدء المجزرة] في دار الشرطة في شفاعمرو، تم إجراء التمرين بواسطة الشرطة، ودعي إليه مندوبو الجيش، والمخابرات العامة، وحرس الحدود، ومصلحة السجون، وقيادة الجبهة الداخلية، ومجلس الأمن في مكتب رئيس الحكومة ووزارة الأمن الداخلي. وتقول الشرطة، أن فكرة إجراء تمرين قُطري حول اضطرابات محتملة بين الأقلية العربية في إسرائيل، كانت قد اُقترحت قبل عدة أشهر من ذلك، بطلب من رئيس الحكومة، إيهود براك، في شهر حزيران الماضي، بعد أن تحدث عن إمكانية فحص احتمالات الردود المختلفة لعرب إسرائيل، إذا ما أعلنت السلطة الفلسطينية عن الدولة الفلسطينية من طرف واحد. عندها تقرر إجراء التمرين.

اعتمد التمرين- السيناريو- الذي يحسب، اندلاع مشاكل فجائية بين الأقلية العربية بعد صدام كبير في القدس، تُصاب فيه أعداد كبيرة من الفلسطينيين ومن عرب إسرائيل المتواجدين هناك. وسيناريو آخر حول اندلاع الاضطرابات في أعقاب الإعلان عن دولة فلسطينية من طرف واحد، الأمر الذي يؤدي إلى تداع يزحف إلى داخل حدود دولة إسرائيل. فقد تمحور التمرين حول الحوادث داخل الخط الأخضر وضمنها القدس. أثناء التمرين الذي اشترك فيه القائد العام للشرطة، العقيد فيلك، اتضح أن شرطة إسرائيل ستجد صعوبات في المهام الملقاة عليها، بسبب النقص في القوى البشرية. فبالرغم من هذا النقص، قيل للشرطة أثناء التمرين، أنه من غير المرغوب استدعاء قوات الجيش إلى داخل الخط الأخضر. واتضح (أيضاً) أنه لا يوجد عتاد كاف لدى الشرطة لقمع المظاهرات، إذا ما أرادوا الامتناع عن إطلاق الرصاص الحي. لذا تمت التوصية بضرورة توزيع العتاد الموجود، وضمنه الغاز المسيل للدموع، على المناطق المتوقع حدوث الإضطرابات فيها. أثناء تلخيص فصل استخلاص العبر، قيل: يجب الأخذ بالحسبان وقوع الأحداث طوال الوقت تحت الأعين المتيقظة لعدسات التلفزة الإسرائيلية، والأجنبية والعربية. كان من قدم ملخصاً لهذا الأمر هو وزير الأمن، شلومو بن عامي [الذي كتب سيرة الدكتاتور الأسباني الفاشي ميغيل بريمو دي ريفيرا!]، وقد أكد بأن أحداثا كهذه لن تكون منقطعة ومنعزلة عن الرأي العام المحلي، إضافة للرأي العام العالمي.

يقول الذين شاركوا في روح العاصفة: كل من يريد التحقيق في الاضطرابات الأخيرة، عليه فحص ما قيل وما أُتِفِق عليه في التمرين الكبير [لا تزال مَحاضره سريّة]، وهل تم تنفيذ التوصيات التي في نهاية التمرين" (زئيف شيف- هآرتس بتاريخ 6. 10. 2000). حسناً. كيف يمكن قراءة ما جاء في التقرير؟

• الدولة التي كانت تشكّ أو تعتقد بما سيحصل للأسباب المذكورة، كان بإمكانها أيضاً نزع فتيل التصعيد المُتوقع، إلا أنها لم تفعل. نفهم من هذا أنها كانت راغبة بحصول الصدام مهما كلّف الثمن.

• فالحديث عن قوى الأمن والشرطة والجيش، وأنواع الأسلحة لقمع المظاهرات التي توقعوها، تدل على خطتهم المبيّتة- وهذا ما حصل. لذا تم تعيين (بن عامي)، وهو المؤرخ "المرموق" في أعين الأكاديميين اليهود وزيراً للأمن الداخلي، وذلك لم يكن محض صدفة، بل لأنه كتب سيرة الدكتاتور الفاشي المذكور وبات يعرف أساليب قمع جديدة لم يكن يعرفها الذين لم يكتبوا هذه السيرة أو مثلها. ومن المفارقات- التكامليّة العجيبة، خلال توليه وزارة الأمن الداخلي أقام (بن عامي) "جاليري الفنون" في أم الفحم (...)!

• إن تخصيص الحديث عمّا قد يحدث من مواجهات "في المدن المختلطة مثل يافا" كما جاء في مداولات الأجهزة العسكريّة والأمنيّة المشتركة، يقع ضمن المحاولات المتكررة للإستئناف على نتائج النكبة وما تلاها وضرورة تهجير عرب يافا، ومدن الساحل (عكا وحيفا) ووسط فلسطين (اللد والرملة). حيث تعتبر الدولة وجودهم من المخاطر الإستراتيجيّة عليها. لهذا السبب أقدمت على تنفيذ خطط كثيرة لتهجيرهم. ومنذ عدة سنوات سلّطت عليهم (الحريديم) بواسطة إقامة أحياء جديدة في اللد والرملة، وأنوية لمدارس دينيّة يهودية، كما هو الحال في يافا. ولن ننسى قوى السوق "الحرّة" المتمثلة الآن بما يسمى الـ Gentrification أو الإستطباق بواسطتها يتم إحلال طبقة أرقى من الطبقات الموجودة بفعل غلاء الأجور والمباني.

• نفهم من مقال (شيف) أن الدولة استعدت كثيراً وهي التي أقدمت على تفجير الوضع في الأقصى، لتعلن أن الأقصى ليس بمنأى عن أية محاولة لتهويده، أو هدمه أو إجتزاء نصفه أو أكثر من قبل اليهود. كما أنها خططت لشلّ نضال عرب 48 الذي تصاعد أثناء الإنتفاضة الأولى. فلا أزال أذكر أن لجنة المتابعة العليا كانت تعلن إضراباً على سقوط الشهداء. ولأن بعض منظريها اعتقدوا أن استمرار هذه الحالة من شأنه أن يقوّض بالخطّ الأخضر. لذا فتحت المؤسسة النار على العرب فقتلت 13 شاباً في مجزرة أكتوبر 2000، والتي سقط فيها عشرات الجرحى وتم اعتقال المئات أيضا، كلّ هذا دب الرعب في نفوسهم فخمدت حدّة مقاومتهم لمشاريع الدولة ومؤسساتها المختلفة. لذا يمكن القول إن تسليط الدولة للعملاء المطرودين من الضفة وغزّة على عرب 48، هو عملية إنزال خلف صفوف العدو؛ هذا ما اعترف به العديد من ضباط الشرطة الذين ادعوا أن أياديهم مكبلة ضد الجريمة بين العرب. وفقاً لتقديرات البروفيسور (مناحيم هوفنونج) الذي يبحث حول هذه الظاهرة، يبلغ عددهم مع أولادهم حوالي 100 ألف عميل!! (طبق الفضّة- عملاء الشباك https://dannyorbach.podbean.com) أما في الضفة الغربيّة وقضاء غزّة والمنافي فإن عدد العملاء كبير جداً! تنبع خطورة هؤلاء العملاء من كونهم أبناء المجتمع ويعرفون عاداته وقيمه وأفراده، وهم حاقدون عليه لأنهم يعتقدون أن الوضع الذي يتواجدون فيه حاليّاً سببه مجتمعهم وليس عمالتهم، حماية الدولة لهم- هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى- تهاون عرب فلسطين بالتعامل مع مؤسسات الدولة والعملاء، حتى أن (هوفنونج) يصفه بـ"المجتمع المتعاون [مع المخابرات]". نذكر هنا أن محاولة رفض القوى الوطنيّة قبل عقدين من الزمن إسكانهم بين ظهرانية هذا المجتمع- فشلت. يمكن القول أننا سننطلق من هذه المحطة إلى المحطة الخامسة التي تليها، بأمان.

• يعتبر (ديختر) أبرز محركي سنّ قانون القومية، ويشغل حاليّاً منصب وزير الزراعة في الحكومة الفاشنازيّة الحاليّة. والذي ضربته متظاهرة عشرينية ضد الإصلاحات في جهاز القضاء بالمكنسة بينما اضطر لتقديم شكوى ضدها للشرطة.

المحطة الخامسة- شكّلت معركة سيف القدس التي بادر إليها محور المقاومة، واستمرت من (10- 21 أيار 2021) مفاجأة كبيرة بالنسبة لإسرائيل بكافة أجهزتها الاسخباراتية وقواها الأمنية المختلفة، خاصة ردّ فعل عرب 48 على ما كان يجري في القدس، وفي الشيخ جرّاح. كُتب عنها الكثير؛ لكنّ عندما ندرك تصعيد استهدافهم من قبل الدولة منذ أكتوبر 2000 ورَدّ فعلهم العنيف وغير المتوقع في أماكن تواجدهم، نفهم أيضاً 'حيرة' الدولة بسلطاتها المختلفة في التعامل معهم. فهي لم تعد قادرة على توقع سلوكهم، وإن كانت قادرة على التصعيد ضدهم. وبما أن ردّ فعلهم المحيّر وغير المتوقع، والخطير في الوقت ذاته- على مايبدو في حساباتها الاستراتيجيّة، أدرجهم كتحدٍّ وجودي لها، أي بمستوى إيران وحزب الله- كما ورد في التقييم، "التقرير الاستراتيجي الإسرائيلي لسنة 2022". أي أنه بات من الضرورة التفكير باستخدام أدوات القوة كالتي أُستخدمت، والأدوات الأخرى يمكن استخدامها ضد إيران وحزب الله (هذا ما أعلن عنه نتنياهو في جلسة الخارجية والأمن في 18. 6. 2023- سنتطرق إليها لاحقاً). وبما أن هندسة الجريمة أثبتت نجاعتها، فإذاً ما المانع من تطوير أدوات هندستها؟ أي زيادة عدد القتلى والمصابين كما هو حاصل نتائج السنتين السابقتين. ويبدو أيضاً، أن التفكير بإقامة حرس وطني في الدولة، ومحاولة سنّ قانون باعتقال المشتبهين إداريّاً كمشتبهين بالتخطيط لخرق القانون الجنائي، والتدريبات العسكرية في القرى العربيّة لخوض معارك مستقبليّة فيها- هي من ملاحق هذه الخطّة.

يمكن اعتبار أن المحطتين السابقتين، الرابعة والخامسة، بمثابة الوعي والإدراك بضرورة اعتبار هندسة الجريمة كأداة حربيّة، ومسلسل الجرائم هو الحرب الفعليّة.

المحطة السادسة- في السابع من شهر أيار 2023، أفشلت الحكومة الإسرائيلية الحاليّة اقتراح قانون تقدم به (يؤاف سجليفيتش) من (يش عتيد). يدعو اقتراحه، الذي تم إسقاطه، إلى "إصلاح في قانون ضريبة القيمة المضافة (رقم 4)" للكشف عن صدقيّة، وشرعيّة وقانونيّة كل الفواتير الضريبيّة الصادرة في الدولة. فـ(سجلوفيتش) الذي كان في حكومة (يائير لبيد) السابقة، مدير قسم التحقيقات والاستخبارات، ومنسق مكافحة الجريمة ونائب وزير الأمن الداخلي السابق، ويقال أن عدد القتلى العرب في هذه الجرائم أثناء توليه المنصب المذكور انخفض بنسبة 16%، استنتج ويدرك أن عصابات الإجرام في الدولة، تحديداً بين العرب، تعمل في أطر شركات اقتصادية وهميّة صُورِيّة، تنتج كل أنواع ومستويات الجرائم من التهديد... إلى القتل المتعمد. وعليه يجب محاربتها بهذا المستوى الذي أثبت نجاحه في الوسط اليهودي قبل عقد من الزمن تقريباً. وعليه نقول إن إفشال الحكومة لاقتراح هذا القانون جاء لسببين- الأول، كما تقول طالما أن هذا الوضع يشكلّ حاضنة لهندسة الجريمة، إذن علينا إبقاءه خرسانة مسلحة لتدعيم هذه الهندسة، وما من شكّ أن التعديلات القانونيّة التي تنوي سنّها هي الأخرى من شأنها أن تدعم ضرورة زيادة نوعيّة هذه الخرسانة. والثاني، يخصّ اليهود من مجاميع مصوتي الأحزاب الحكومية الحاليّة، الذين هم من اليهود الشرقيين، والذين تكثر بينهم الجرائم الاقتصادية الخفيفة والمتوسطة وما يرافقها من جرائم أخرى. هنا يُطرح السؤال: هل جماعات المصوتين للمعارضة من اليهود الغربيين لا يقترفون المخالفات والجرائم؟ الجواب: بالطبع لا. فهم يفترفون الجرائم الكبرى التي هي من صلب النظام الذي أنشأوه هم بأنفسهم، والذي يحمونه بنظام قانون قضائي من صنعهم أيضاً، لذا يرفضون التعديلات القضائية التي تنوي الحكومة الحاليّة القيام بها.

المحطة السابعة- في الخامس عشر من شهر حزيران 2023 تظاهر المئات من مثليي الجنس وأنصارهم من اليهود في الأساس وبعض العرب، في مدينة حيفا احتجاجاً على مقتل الفتاة سريت أحمد شقور، التي يقال أنها قُتلت لأنها سحاقيّة. هنا يجب القول والتأكيد، لا يحقّ لأي كان، فرداً أم سلطة، إيذاء شخص ما لم تخلقه الطبيعة خلقا معياريّاً. لكن حديثنا في هذا السياق هو حول استغلال جريمة قتل الفتاة، سريت، للتحريض ضد العرب. فقد ذهب "ناشط درزي" في مجال حقوق الانسان في مقال ناريّ ضد الطائفة الدرزيّة وشيوخها دون أن يذكر اسمه بإدانتها وشيوخها قائلاً: "مع ذلك، لا يزال يخيّل لهؤلاء الشيوخ أنّهم أبطال. أبطال على النساء، وأبطال على القَتلى. إنّهم أبطال من وجهة نظرهم الشخصية لأنّهم قاطعوا جنازة شابة لم تتعدَ الثامنة عشرة. يا للخزي والعار؛ ويلٌ لطائفة اتّسمت دومًا برفضها القاطع للقتل. لم يتبق من الطائفة الباسلة والمقاتلة، الطائفة الصغيرة التي حاربت الأتراك والفرنسيين دفاعاً عن أبنائها، سوى ثلة بائسين خانعين للعائلات الإجرامية ومتقبلّين لمقتل واحدة من بناتهم" (هآرتس 18. 6. 2023). نعم هذا موقف الناشط والكثيرين ممن نددوا بجريمة قتل الفتاة، مع أنهم لم ينددوا أبداً بالجريمة المنظمة التي تمارسها الدولة ضد "الطائفة" بدءا بإلزام أبنائها بالخدمة في الجيش ضد شعبهم واقتلاعهم من حاضنتهم الطبيعية العربيّة. وما هؤلاء الشيوخ إلا أدوات تابعة أنتجتها ضمن الهندسة الاجتماعية للجريمة ضد عرب 48. فالضحيّة هنا تحولت إلى مجرم مُدان. وعن تحويل الضحيّة إلى مجرم في سياق التصنيفات الجنسانيّة غير المعياريّة يقول جوزيف مسعد بأن هذا جزء من استبناء الخطاب الاستعماري (عند أحمد ضياء، الأخبار اللبنانيّة 27. 11. 2008). فالدولة والمجتمع بخطابهما يرعون هذه التصنيفات، لا وبلّ يشجعونها، إلا أنهم لا يحمون المختلفين معياريّاً فيها.

نفهم مما تقدم، أنه تمّ إنتاج تلك المحطات والإنتقال من محطة إلى أخرى في التصعيد ضمن منهج وسياق سياسيّ للإستئناف على نتائج النكبة التي أفلت منها عرب 48، لكنهم لم ينجوا بالكامل. فالتضييق ومحاصرة الحيّز العمراني ومنع إنتاج فضاء عام خاص بهم هو المحرك الثابت في هذا المنهج (الإستراتيجيّة). كما أننا نفهم أن عرب 48 بوجهائهم العشائريّين والدينيّين، وقادتهم السياسيّين، والنخب السياسيّة والأدبية الأخرى لم يعوا أو يدركوا أن الجريمة التي تفتك بمجتمعهم ما هي إلا استمرار لعدوان سنة 1948 الفعليّ ضدّهم. فقد كشف راديو (كان) باللغة العبريّة صبيحة (19. 6. 2023) عمّا صرّح به (نتنياهو) في جلسة لجنة الخارجية والأمن التي عٌقدت قبل يوم من هذا الإعلان، أن عشرة كتائب تابعة للجيش الإسرائيلي تتدرب على القتال في القرى العربيّة في حرب محتملة، وأكد أن هذه الكتائب غير كافية للمواجهة- بهذا نعود إلى المربع الأول: إعادة احتلال هذه القرى وتهجير أهاليها. نعتقد أن هذه التدريبات جاءت ضمن الخطط المُرفقة غير المُعلنة للـ"تقرير الإسرائيلي الإستراتيجي 2022" أما عندما باتت هذه النخب تدرك بوجود دور ما للدولة في هندسة الجريمة، فإنها لم تتمكن من إجتراح برنامجها وخطابها الوطني النقيض (أو الموازي على الأقل). فبقيت على هامش خطاب السلطة منددة بها تارة، مطالبة إيّاها بتغيير هذا الوزير أو ذاك تارة أخرى، ومطالبة برصد الميزانيات وما إلى ذلك من تجليّات عقم التفكير وعجز الممارسة. فعرب 48 لم يأخذوا بعد على عاتقهم جزءا من مسئولية هندسة الجريمة، والعمل على استعادة دور ومكانة العائلة التي حوّلها خطاب الجمعيات المموّلة من الخارج إلى أطر تُنتج الجريمة فقط. فدون اهتمام الأسرة والعائلة بتربية، ورعاية، ومراقبة، وعقاب من يخطئ من أبنائها- نعم عقاب- لن يتمكن من استنهاض قواه البشريّة، التنظيمية، والذاكرة التواصليّة في مشروع سياسي اجتماعي موحد كما ذكرت في مقالي (إعادة الاعتبار للمجتمع ومؤسساته، والسلطات المحلية، ولجان الطلبة والأهالي، 2021)، أي ضرورة استنهاض المجتمع بمؤسساته القائمة التي تحظى بشرعيّته في سياق موحد لمقاومة الجريمة، أو الحدّ منها على الأقل، مع امتلاكها للميزانيّات الجاهزة لعملها. فهذه المؤسسات هي المجتمع المدني الحقيقي. أما مطالبة الحكومة بمحاربة الجريمة، فهو كمن يرهن مهمة الحفاظ والدفاع عن حقوق الإنسان لأجهزة المخابرات العامة، أي (الشبَاك) في هذه الحالة. كما ينبغي على القوى السياسية هذه أن تتجاوز عُقم تشكيل القائمة المشتركة الذي أسهم تفكيكها في عزوف الناس عن العمل السياسي، الذي كان عليه أن يسعى إلى محاربة الجريمة قبل كل شيء. فالمشترك هو تفعيل العمل السياسي والمجتمع المدني في سياق المواجهة مع سلطة هندسة الجريمة. على المؤسسات الدينية الثلاث- المسيحيّة والإسلاميّة والدرزية، أن تراجع ملفاتها هي الأخرى، فماذا يعني تزامن تزايد التديّن ومظاهره وارتفاع نسبة الجريمة؟ المطلوب إجابة صادقة!

أما عن وحدة ساحات محاربة الجريمة، فهذا باب آخر، يجب طرقه في محطة ما!

المصدر: موقع إضاءات الإخباري