ثقافة
11 آب 2023 , 06:20 ص


قصّة قصيرة كتبتها بعد انشغال المواطنين ووسائل الإعلام بظهور حوت في البحر، بتاريخ العشرين من نيسان 2023.

أدار أبو العبد ظهره لهذه المدينة التي أحبّ، والغارقة في القلق والحزن والكمد ، والملبّدة سماؤها بغيوم الخوف الشديد على المصير المجهول، والمكتظّة بآلاف المصلوبين على أرصفة الانتظار أمام أبواب المصارف والصيدليات والأفران ومحطات الوقود وغيرها . طوابير طويلة تنسرب منها زفرات وتأوّهات تخترق الحجب والآفاق ، وراح يجرّ رجليه على مهل قاصداً البحر ، لعلّه يستريح قليلاً من هذه الأجواء النفسيّة الضاغطة التي أضحى غير قادر على تحمّلها، بل تحوّلت هموماً لا تطاق .

أحسّ تلك اللحظة التي ألقى فيها جسده المتهالك على مقعد هناك قبالة البحر، بحر عين المريسة، أنّه غريب قادم من كوكب آخر، خارج زمان هذه الأرض ومكانها ، واللذّيْن كانا محبّبين إليه كثيراً من قبل .

الناس الذين يمارسون رياضة المشي يتجاوزونه، ولا يعيره واحد منهم اهتماماً ، هذا لأنّه رمى الطربوش والخيزرانة في البيت بعصبيّة شديدة، ولأنّه اهمل شاربيه إلى درجة تبدّلت معها وجهتهما من علاء العزّ الذي كان يشعر به إلى الأرض، "بعدما مسحوا به الأرض "، وهذه العبارة ردّدها كثيراً من قبل.

هزّ رأسه وراح يهمس" الله ! ما الذي جرى لك يا أبا العبد ، أين المحبّون الذين كانوا يتسابقون بقصد التحدث معك ، وأخذ الصور التذكارية ،

والاستمتاع بسماع آخر بطولاتك النادرة ؟ أيّام العزّ ولّت ، وانكسر الزمن الجميل. فهؤلاء العابرون ذهاباً وإياباً لم يلقِ واحد منهم عليك تحيّة.. زمن يا أبا العبد زمن ! سبحان مغيّر الأحوال... بورصة .الدنيا بورصة وانا الآن خاسر ، ولا املك شيئا"...إنّهم معذورون ، فأنا الآن إنسان آخر ، جثّة، انا الآن جثّة سلبوا منها الحياة، وألقوا بها على هذا الرصيف الذي ينكرني الآن ، ويتبرّأ منّي... ردّد ذلك ، وشرع يمسح دموعاً همت عفواً على وجنتيه تحسّراً على وضع آل إليه مع أبناء هذه الأرض المتروكة لقدرها

سرعان ما قطع عليه حبل تداعياته المرّة تلك ، واسترجاعاته الحميمة لزمن جميل سفكت دماؤه على أرصفة هذه المدينة المعشوقة ، وصول سيارة أعلاميّة ،تحمل شارتها الخاصة بها . نزل فريق منها ، وصوّب المصوّر عدستة إلى البحر ، وشرعت المذيعة تنقل بصوت واضح ومسموع : فريقنا ينتظر ظهور الحوت ،حوت الأوركا الخطير الذي شوهد صباحاً ، هنا، من قبل العديدين . أبقوا معنا، ولا تذهبوا بعيداً .

عرك ابو العبد جبهته وراح يهمس: حوت ، حوت خطير هنا، ما هذا الهراء ؟

زفر زفرة طويلة وتابع:

والله ، إنّ الذي يؤلمني الآن هو تجمّع هؤلاء الناس الخائفين من حوت في البحر . هذا إذا كان ما يدّعونه صحيحاً ، وكأنّ كلّ المصائب النازلة على رؤوسهم لا تخيفهم ولا يحسبون لها حسابا.

"الحوت هناك الحوت هناك إننا نراه بوضوح"

قال كثيرون ، وتابعت المذيعة:

نعم ، حوت الأوركا الخطير جدّاً بادٍ بوضوح إمامنا، إنّه يمخر عباب المياه التي غادرها السبّاحون بعد الخبر الذي تداوله العديدون عن مشاهدته .

صوّب ابو العبد بصره ، ثمّ لوى راسه يميناً ويساراً، واخذ يردّد :

- لا حول ولا قوة الا بالله...هذه فقمة يا بشر ! انا رأيتها مرّات عديدة تظهر هنا ثم تغادر بعد فشلها في تناول ما يسدّ جوعها بعدما التهم حيتان البر والبحر كل ما وقعت عليه ايديهم ، ولم يتركوا لها شيئاً على ما يبدو. نعم لقد

قضموا اليابسة وهضموها جيّدا.

قال ذلك وتوجّه إلى السماء وقال:

انظروا ، حدّقوا جيّداً، وانت يا مصوراتي صوّر ذلك الحوت الكبير الذي يلتقم البشر ويسبح في السماء.

- تلك طائرة يا ...من ابو العبد ؟(قالت المذيعة)

-نعم، ابو العبد ، ابو الزفت ...

- وأين طربوشك والخيزرانة ؟

-سرقهما الزمن

- أيّ زمن ؟(قال واحد من المحتشدين الخائفين)

- الزمن الذي اغتصب من بيروت لقبها الأجمل "ام الشرائع "

- من الذي سرقها يا أبو العبد ، أفصح ؟

- أنت غريب ام غبيّ ؟ سرقها الحيتان، حيتان الأرض والسماء. قال ذلك ،ورجع إلى المقعد وهو يصيح بصوت عال:

رحماك يا ربّي . فهؤلاء البشر خائفون من حوت ، من فقمة، ولا يخشون حيتان أرضهم والسماء ! والله إنّي أصبحت خائفاً على هذه المخلوقات البحريّة من حيتان الأرض. رحماك يا ألله ! رحماك يا ربّي ! رحماك ...

د. علي حجازي

المصدر: موفع إضاءات الإخباري