العقيد. (المتقاعد) الدكتور شاؤول أرييلي، خبير في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني
هآرتس 20.10.23
لقد خلق بنيامين نتنياهو وشلته واقعا زائفا في أذهان نصف الجمهور الإسرائيلي، من أجل تبرير سياستهم ورؤيتهم، التي أدت، من بين أمور أخرى، إلى كارثة 7 أكتوبر في قطاع غزة.
ومن أجل ملاءمة الواقع مع سياساته، بدأ نتنياهو العمل من خلال قنوات مختلفة - وسائل الإعلام، وشبكات التواصل الاجتماعي، وجهاز التعليم، والوزراء وأعضاء الكنيست في الائتلاف - لبلورة واقع زائف في أذهان الجمهور الإسرائيلي يتناسب مع سياساته وطموحاته في المجالين السياسي والشخصي. بمعنى آخر، بدلاً من أن يبني سياسته على فحص مهني ومسؤول للواقع فيما يتعلق بجهوزية الرؤية القومية المسيانية، اختار أن يشكل في ذهن الجمهور واقعاً متخيلاً يقوم على مجموعة من الأكاذيب التي تبرر سياسته غير الشرعية والانتهازية.
لقد زوّد التحريض الكاذب الركائن الأساسية للواقع الزائف: "لقد نسي اليساريون معنى أن تكون يهوديًا"؛ "المتظاهرون فوضويون وخونة". "العرب يتدفقون على مراكز الاقتراع". "المحكمة العليا تضر بأمن الدولة"؛ "أبو مازن يدعم الارهاب"، "حماس يخدمنا"، وغيرها من التصريحات..
وعلى المستوى السياسي والأمني، أخاف نتنياهو الجمهور وأقنعهم بأنه بحوزته "شعب يعيش وحده". وهكذا فإن إيران هي "الدكتاتورية النازية" وداعش وحزب الله هما الدليل على أنهما "يتجهزان لابادتنا". وفي رأيه أن مبادرة الجامعة العربية منذ عام 2002 غير قابلة للتطبيق، ومحمود عباس يتمسك بـ "نظرية المراحل" للقضاء على إسرائيل، بينما يجب رعاية حماس وتقويتها. ومن الضروري ضمان استمرار الانقسام بين الفلسطينيين - الذي يقوض شرعية وسلطة عباس، الشريك المحتمل لحل الصراع - وتعزيز الوهم بأن الانقسام سيُخرج سكان قطاع غزة من المعادلة الديمغرافية ما يسمح بضم الضفة الغربية.
سياسة الغيتو هذه أججت الإجراءات على المستوى الداخلي -الاجتماعي: طالب نتنياهو - أيضًا من معارضيه - بإظهار "الوحدة" ودعم قيادة الدولة، وطالب بالدعم الكامل من الجهاز القضائي للقوانين المناهضة للديمقراطية والعمليات التي تنتهك القانون الدولي. القانون، وتوقع أن يستفيد من وسائل اعلام متعاطفة، وحتى من استعداد الجمهور التضحية بحياته مع اندلاع أعمال العنف.
هدفت رعاية مثل هذا الواقع إلى ضمان اختفاء المعارضة لحكمه، في غياب أي إمكانية لتغيير الحكومة. لقد اختار نتنياهو بعناية الوزراء في حكوماته لغرض تنفيذ هذه السياسة، وأرسلهم ليساهمو في قضم استقرار ركائز الديمقراطية: أييليت شاكيد وأمير أوحانا ويريف ليفين زعزعوا مكانة المحكمة العليا؛ نفتالي بينيت ويوآف كيش- التعليم؛ ميري ريغيف في الثقافة والرياضة؛ يولي إدلشتين في الكنيست؛ بتسلئيل سموتريتش في مجال المالية والأمن؛ ايتمار بن غفير في الأمن الداخلي وهكذا.
.. يشهد سلوكه تجاه السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وفي مختلف العمليات ضد حماس في غزة والتحركات التي أدت إليها، على أن هدفه السياسي واحد: العودة في أسرع وقت ممكن إلى الحضن الدافئ والآمن، له، لما يسميه بشكل خاطئ "الوضع الراهن"، الذي أتاح له استمرار حكمه.
وبعبارة أخرى، فإن الوضع الراهن أبقى نتنياهو على رأس الحكومة، وسمح للقوميين المسيحانيين بتنفيذ سياساته وسياساتهم: توسيع المشروع الاستيطاني، وبناء البؤر الاستيطانية غير القانونية، والإرهاب اليهودي، وتعزيز الوجود اليهودي في القدس الشرقية، ومعارضة مفاوضات حقيقية مع محمود عباس، وتعزيز الانقسام بين حماس والسلطة الفلسطينية واستمرار الحصار على غزة، وكل هذا على حساب المسّ بديمقراطية إسرائيل، وصورتها ومكانتها الدولية، وتماسكها وتضامنها الاجتماعي، وعلى حساب تعاظم قوة حماس وإضعاف السلطة الفلسطينية.
لقد تجاهل نتنياهو نفسه العديد من التحذيرات من كبار المسؤولين الأمنيين، ونفى تلقي تحذيرات واستمر في قيادة الانقلاب الذي أضر بحصانة إسرائيل. فقط الانفصال عن الواقع يمكن أن يفسر نقل معظم القوات من قطاع غزة إلى الضفة الغربية عشية "سيمحات توراة"، وإلغاء فرق المناوبة (العسكرية) في بلدات قطاع غزة، ومن ناحية أخرى تخصيص القوات إلى البؤر الاستيطانية غير القانونية وللعريشة في حوارة، وتخصيص المليارات لطلاب المدارس الدينية على حساب تجهيز جنود الاحتياط، وإعلان بن غفير عن "حارس الأسوار 2" في قلب بلدة عربية كانت ضحية هجوم حماس، وتوجيه لرؤساء الأركان الذي تقاعدوا منذ عقد من الزمن ومذيعي الأخبار وقادة حركة الاحتجاج في الفشل الحاصل.
والأسوأ من ذلك أن انفصال حكومة نتنياهو عن الواقع وتعيين وزراء غير مؤهلين لأسباب لا علاقة لها بالإدارة السليمة، يفسران عجز الحكومة عن إدارة المعركة وتحديد هدف سياسي للعملية العسكرية التي ستلحق خسائر فادحة بالمجتمع الإسرائيلي.
والآن، وقد أصبح من الواضح أن سياسة نتنياهو سمحت لحماس بتقويض الوضع الراهن المتخيَّل وانهيار كل استراتيجيات نتنياهو العبثية، وفي ظل الأحداث التي تسخر من التحريض ضد أنصار الديمقراطية، هل سيُظهر الجمهور الآن نضجاً ويقرر أنه يمقت الواقع الكاذب؟؟
فهل سيسأم من رجل تتلخص فلسفته كلها في البقاء والذي سمح للمتطرفين بقيادة إسرائيل؟ هل سيطالب باستقالته ويصوت في الانتخابات المقبلة لزعيم آخر - زعيم يعطي اولوية اهتماماته للمصلحة الوطنية، في شكل حل الصراع مع الفلسطينيين والعالم العربي، مع الحفاظ على أمن دولة إسرائيل ومكانتها الدولية؟