إيهاب شوقي
لا شك أن القضية الفلسطينية تمر بمنعطف تاريخي خطير، وبرغم ما كشفته عملية "طوفان الأقصى" من هشاشة للعسكرية الصهيونية ، إلا أنها كشفت عدة أمور أخرى بجلاء شديد، وهي أمور تشكل تهديدات، ولكن بالإمكان تحويلها إلى فرص.
وإن كانت العملية كشفت في ساعاتها الأولى حجم الاهتراء الصهيوني على مستوى الاستخبارات والروح القتالية وسرعة الاستجابة للطوارئ وتفكك التنسيق، بل والتناحر والاتهامات المتبادلة، بين الأجهزة والسلطات المختلفة، فإن العملية في ايامها واسابيعها اللاحقة كشفت حقائق أخرى خطيرة بجلاء يمكننا أن نرصد منها ما يلي:
1- الشعب الفلسطيني ليس له من ناصر ومعين حقيقي من البشر، سوى قوى المقاومة وبعض قطاعات من الشعوب التي لا تزال تحتفظ ببقايا من ثوابتها وعروبتها ودينها والتي خرجت لتناصر مظلوميته.
2- الأنظمة العربية والاسلامية في مجملها لا وزن لها في معادلات اتخاذ القرار الأمريكي والصهيوني، بتفاوتات بين العمالة الصريحة والتواطؤ والرغبة المشتركة في الخلاص من المقاومة، وبين العجز والانحدار وافتقاد الهيبة وأوراق الضغط.
3- دول محور المقاومة الرسمية والمتمثلة في الدولة السورية وايران، باتا صوتين غريبين في المحافل الدولية بل والعربية والإسلامية حيث لم يتحدث سواهما عن شرعية المقاومة.
4- أمريكا أثبتت صحة وصف الإمام الخميني عندما وصفها بالشيطان الأكبر، حيث تقود القتل والتدمير الممنهج في ذات الوقت الذي تخطط فيه لأوضاع سياسية شيطانية مفادها تصفية المقاومة والقضية الفلسطينية برمتها، وتحاول في ذات الوقت الإيحاء بأنها بريئة من ممارسات "اسرائيل" وأنها تحاول كبح جماحها، والأدهى من ذلك أنها تعد في ذات الوقت وعلى الجانب الصهيوني، لما بعد نتنياهو، حيث تضرب جميع العصافير بحجر واحد.
5- هناك تكتلات تتشكل من الأنظمة للإعداد –وفقا للتصور الأمريكي- لما بعد الطوفان، وهي الانظمة الخليجية وتركيا لتشكل معادلا موازيا لمحور المقاومة، في قطع للطريق على أن تصبح القضية عربية إسلامية موحدة، وهو ما تجلى في اجتماع مجلس التعاون الخليجي والذي استضاف الرئيس التركي، والحديث عن مستقبل غزة وإعمارها وحل الدولتين المزعوم، وما يتجلى أيضا في مجموعة الاتصال التي تشكلت من القمة العربية الاسلامية للتفاوض مع أمريكا، والمشكلة من وزراء خارجية السعودية وتركيا وإندونيسيا ونيجيريا والأردن ومصر وقطر.
هنا نحن أمام مقاربة لا بد من مواجهتها بالحجم اللائق لتعقيدها وخطورتها وهذه المقاربة تتمثل فيما يلي:
هناك جوانب متعددة لهذا التدمير الممنهج لمباني غزة وليس القتل الممنهج فقط حيث يبدو أن هناك هدفين رئيسيين:
الأول- مخطط التهجير القسري سواء كان قسريا للفلسطينيين، أو قسريا لمصر والأردن، وخاصة بعد صدور بعض اشارات من مصادر عسكرية اعلامية محسوبة على النظام المصري تفيد بأن الأمور قد تنفجر ليصبح استقبال مصر لالاف اللاجئين أمرا واقعا رغم رفض سياسة التهجير، وأن هذا الاستقبال سيكون انسانيا وبحكم القانون الدولي!
الثاني- رفع كلفة إعادة الإعمار..وهنا تأتي أسئلة من نوعية، من سيعيد الاعمار؟ وما هي شروطه السياسية لاعادة الاعمار؟ ومن سيكون حاكما لغزة كي يوافق من يشترك في إعادة الاعمار؟
وهنا لم يكن غريبا تركيز اجتماع مجلس التعاون الخليجي على قضية إعادة الإعمار والدور الخليجي بها، وبلا شك فإن الممول لشئ دائما ما يفرض شروطه!
وبالتالي فإن المقاربة هي خلق أمر واقع من التهجير والشتات ولو بشكل جزئي، وخلق منطقة عازلة في شمال غزة لإعادة مستوطنات (الغلاف) وإعادة الإعمار وفقا للتخطيط الجديد وبشروط سياسية تتدخل في طبيعة الحكم والسلطة والتي لم يتفق عليها المتآمرون حتى الآن، ولو أن بعض التوصيات الأمريكية المقدمة من مراكز الفكر توصي بائتلاف على نمط منظمة التحرير.
وهنا فإن الكيان الصهيوني يحارب بيد طليقة ويترك لأمريكا مهمتين رئيسيتين:
الأولى، إلهاء أمريكا للرأي العام العالمي وتييض الصورة الأمريكية والصهيونية ما أمكن، والتنسيق مع الأنظمة العربية وتركيا لمستقبل قطاع غزة.
والثانية، محاولات أمريكا بشتى الطرق لعدم توسيع الصراع وخروجه عن نطاق فلسطين المحتلة، سواء بالتهديد لمحور المقاومة أو بالامتصاص لهجماته وغضبه وعدم الانجرار لفتح الجبهات في لبنان واليمن وسوريا والعراق، وذلك لتمكين العدو من التركيز على غزة.
لقد اتخذ المحور في جبهاته خطوات جريئة وصادقة واعلن جهوزيته لأسوأ الاحتمالات، سواء في لبنان أو اليمن أو العراق أو سوريا، بينما أمريكا تمتص الغضب ولا تريد التصعيد مع المحور، وعلى الجانب الآخر توقد نار الحرب في غزة لتصفية المقاومة.
وفي مواجهة هذه التعقيدات، فإن الخضوع للمسار السياسي التفاوضي دون الميدان يشكل فخا، والركون للمواجهة العسكرية دون سياسة، يشكل عزلة، وبالتالي فإن التعاطي يجب أن يكون على أرضية تكريس شرعية المقاومة وفقا للقانون، وتكثيف عمليات المقاومة النوعية لردع العدو الذي لا يعبأ بالقانون.
ومواجهة سياسة التهجير بتهجير الصهاينة عبر تحويل الكيان لمشروع فاشل ومقبرة لمن يجلبهم من المستوطنين، وتكريس البعد الشعبي في اختيار حكام فلسطين، وعدم الانجرار لفخاخ فصل غزة عن بقية الأراضي في الضفة والقدس.
ونلمح في تعاطي محور المقاومة مراعاة لهذه الأبعاد، حيث نرى المستوطنات الخالية في الشمال بعد هجمات حزب الله، والخالية في (الغلاف) بعد هجمات حماس والجهاد والفصائل الفلسطينية المقاومة.
والعدو لا يرغب في التفاوض في هذه المرحلة، ولن يتفاوض الا بعد تنفيذ جل مخططه، وبالتالي فإن المقاومة لن تتفاوض تحت النار، وبعد إفشال مخططاته.
هل تنجح هذه المقاربة الشيطانية، وهل تمر الأنظمة الصامتة عن التصريحات وغير الصامتة عن العمل المكثف للاعداد لما بعد الحرب في ثقة تامة بنجاح المخطط الصهيو أمريكي؟
الإجابة هي لا، قولا واحدا، لأن المقاومة لن تقف متفرجة على ضياع غزة وتصفية القضية، ولها أوراقها التي لم تستخدمها بعد وفقا لقراءة مرحلية تفيد بأن المقاومة في غزة لا تزال صامدة، ولكل مقام مقال، ولكل حادث حديث.