كان هناك بيت في خان يونس
مقالات
كان هناك بيت في خان يونس
جميل مطر
23 كانون الأول 2023 , 08:51 ص

جلست أمام الشاشة أتابع صور وأخبار ما يجري في جنوب غزة بعد أن انتقلت إليه قنابل ورصاصات جيش الاحتلال. قدمت المذيعة لتطورات اليوم في القتال بعبارات وجيزة، ولكن بصوت مرتعش قبل أن تستدعي مراسل القناة ليدلي بدلوه وليقدم التفاصيل الضرورية. أدلى المراسل بدلوه أمام مُشاهد مشدود بكل أحاسيسه نحو واقع غير مألوف. رجل على الشاشة ينقل لي بالكلمات ما فعلت الرصاصات الأميركية بوجه طفل رضيع. الرجل نفسه غير منتبه لاحتمال كبير أن يكون في تلك اللحظة هدفاً لرصاصة لئيمة يستعد لإطلاقها تجاهه مجرم حرب آخر أشد لؤماً. حاولت بجهد أن أركز على رسالة المراسل الفلسطيني، بينما انحاز تركيزي بمجمله إلى أن ما أفعله في حقيقة الأمر لا يخرج عن كوني مُشاهداً متوتراً يتوقع رصاصة تنطلق تجاه المراسل فيسقط بعدها مضرجاً بدمائه، ليصبح في عناوين الأخبار في النشرة التالية: صحافي فلسطيني يضرب بمصرعه الرقم القياسي في لعبة اصطياد الصحافيين، لعبة حرمها القانون الدولي وشرعتها الصهيونية بوجهَيها الأميركي والإسرائيلي.

لم أعرف إن كان الجندي الإسرائيلي تأخر في إطلاق رصاصته، أم أنني أفقت من كابوس القتل المتعمد للصحافيين على صوت المراسل الفلسطيني يعلن مزوداً بالصور اللازمة أن أكوام الأسمنت والأحجار والأثاثات والملابس المتناثرة في عديد هذه الصور، وبعضها مختلط بالدماء، تنتمي جميعها إلى بيت عائلة معروفة. سكت المراسل لثوان قبل أن يعود ليقرر أن العائلة التي سكنت هذا البيت، والتي لها فروع في البيوت الأخرى المجاورة والمتقابلة في هذا الحي، هي عائلة الفرا التي عاشت لقرون في هذا الركن البعيد من قطاع غزة والقريب من حدود فلسطين مع مصر.

الحزن كالحب. ليس كل الحزن واحداً أو متشابهاً، وليس كل الحب واحداً أو متشابهاً. الحزن على فقد جماعة من الناس ليس كالحزن على فقد أحد بعينه فيها، كما أن مشاعر الحب ليست واحدة أو متطابقة في كل الأحوال وتحت كل الظروف ومع أكثر من فرد.

على امتداد سبعين يوماً وأكثر عشت مع الحزن بأنواعه العديدة أوقاتاً طويلة. كنت شاهداً على قتل مئات من أهل غزة المدينة وغزة القطاع. من هؤلاء قتلت الطائرات بقنابلها الأميركية «الغبية» آلاف الفلسطينيين من أبناء القطاع. هذه القنابل وصفتها الصحف الأميركية بـ»الغبية» لأنها مصنوعة لتكون أقل تمييزاً فتحصد بغبائها أعداداً أكبر من الضحايا خاصة بين الأطفال.

وسط الحزن وكثير من الغضب تذكرت سنوات رائعة فاضت بالحب والتفاني، قضيتها في صحبة وزمالة الدكتور محمد الفرا، شهم فلسطيني آخر من أبناء خان يونس. عملنا معاً، هو الرئيس وأنا نائبه، في الإدارة المخصصة لشؤون فلسطين في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية. جمعنا للتعارف والعمل معاً محمود رياض الأمين العام الأسبق للجامعة العربية. التقيا في نيويورك، وكانا مندوبَين دائمَين لمصر والأردن، وعندما جرى تعيين رياض أميناً عاماً للجامعة، عرض على زميله العمل رئيساً للإدارة العامة في شؤون فلسطين. وعندما انتقلت الجامعة إلى تونس عرض الفرا أن أعمل نائباً له. كانت فرصة لا تعوض لمن أراد أن يعرف أكثر عن منظمة التحرير والمواقف الحقيقية للدول العربية تجاه القضية، ولمن كان يحلم بالاقتراب من بعض قادة العمل الفلسطيني.

في بيته القريب من بيت الرئيس عبد الناصر بالقاهرة، وفي مكتبه بمقر الجامعة في شارع خير الدين بتونس، وفي بيته بحيّ المنزه بالعاصمة التونسية، وفي مختلف مقار القيادات الفلسطينية بمصر وبحيّ التضامن وحيّ سيدى بوسعيد في تونس العاصمة، هناك عشت ساعات طويلة أجمع لنفسي سير حياة قادة أهم التيارات والفصائل الفلسطينية، خاصة هؤلاء الذين رحلوا، أو في الحقيقة، هاجروا من بيروت، حيث كانت لهم هناك دويلة في حي الضاحية، إلى تونس ليعيشوا في حماية وتحت رقابة جيش الرئيس الحبيب بورقيبة. حضرت مع هؤلاء اجتماعات بصفتي الرسمية ثم بصفتي الشخصية، ودعيت مرات إلى مكتب الرئيس عرفات لأشارك في حوارات هادئة وأخرى عاصفة. كان معي في إحداها الصديق لطفي الخولي. شجعتني هذه العلاقات على أن أتداول بدرجة عليا من الصراحة في شؤون فلسطينية داخلية وفردية. كانت الفترة التي قضيتها في تونس فلسطينية بأكثر من معنى. صار بيتي في شارع الجمهورية بضاحية قرطاج منبراً للحوار الحر الآمن حسب ظننا البريء في ذلك الحين. حصيلة التجربة وفيرة من نواح عديدة، يكفي أنني عشت بعدها سنوات، وإلى فترة قريبة، أقرأ ما يدور في أذهان سياسيين ومفكرين فلسطينيين عديدين وأتوقع تصرفاتهم ومواقفهم كما لو كانت عقولهم متاحة أمامي ككراسات مفتوحة.

كانت فترة غزيرة بالمعلومات عن طموحات شعب رفض أن تنساه الشعوب الأخرى، خاصة شعوباً تبادل معها الانتماء. تعلمت أن الطموحات إن بحثت عنها فسوف أجدها عند الشباب. وإن غاب الشباب في أمة لا بد أن نتوقع لها الانكسار والدخول إلى عالم النسيان. تعرفت على الشباب الفلسطيني من خلال زمالتي لعدد منهم. عملت في الأمانة العامة للجامعة العربية مع ماري عوض، ومروة جبر، ومكرم يونس، وأحمد جراد، وسيف الدريني، فكانوا نعم الشباب. لم يتوقف واحد أو واحدة منهم عن السعي للتفوق وأداء الواجب لوطن جريح. غاب الوطن ولم يغيبوا.