بقلم: محمد سعد عبد اللطيف،
مصر، في ظل الطقس والموجة شديدة الصقيع التي تجتاح مصر، تذكرت فترة إقامتي شمال ألمانيا علي بحر الشمال في نفس هذا الشهر من العزلة،، النار والذاكرة والمطر والرعد والبرق والصمت وكل ما هو طبيعي وقت المساء، هناك علي حدود الدانمارك، حيث العزلة والهدوء والصمت هي ليست مكانًا بل هي رُوح، أحيانًا قد تكون في قلب الضوضاء والضجيج لكنك تشعر وحدك في عالم آخر، أمام شمعة، ما نتخيله أكثر مما نفكر فيه لماذا ينتحر الناس هنا...؟
لماذا يشعلون الشموع هنا...؟ اهدني تفكيري الجغرافي لأن علاقة الإنسان بالنار قديمة وكذلك مع المطر،
مع النار ولهب شمعة وصوت المطر والصمت تحضر الأبدية في لحظات وتعيش مع تاريخ البشرية على ضوء الشموع،،
لا أحد يطرق الباب في الليل والثلج يتساقط، ومع الريح تلوح كرات الثلج مجنحة، وفي السكون البدائي تبدو الأرض كما لو تولد الآن،
كل شيء هناك ينبثق كالبدايات الأولى للخلق، وأنا سعيد سأكون مُختلفًا أمام انبثاق الأشياء،
لا أستبعد مرور حيوان يبحث عن طعام بعد أن يكون الثلج قد غطى كل شيء أو قطيع من "الغزلان" أشعر أني في أكواخ العزلة أو ضوء البرق،
الحياة هناك ليست الحياة هنا، لا أقنعة مزيفة ولا تمثيل ولا خداع ولا تحتاج
إلى تفسير وتحليل الغاز ولا قلق،
سيكون مُسليًا لو خرج ذِئبًا رماديًّا جميلًا كما لو أنهُ خرج توًّا من عُزلتهِ مطليٌّ بِالمطرِ والضوءِ،، الذئاب هنا مسالمة من تجارب سابقة بعد منتصف الليل، على ضوء الشموع وصوت تكسر خشب الصنوبر في المدفأة الحجرية، تهطل الذاكرة بالصور أكثر مما يهطل الثلج، ماذا يريد الماضي هنا في هذه الأصقاع الجليدية...؟ النوافذ هنا كبيرة، خارج النافذة قمر أبيض، قمر أبيض صغير يشبه أقمار لوحة الرسام التشكيلي،
انتظر أن يمر' غزال" وينظر نحو النافذة،
لسنا غرباء في الغابة، كلنا في عزلة، أنا لست مُعقدًا من شيء وعلى العكس أحب القمر الأبيض وضوء الشموع ومرور غزال رمادي وحفنة أصدقاء، بل في أعماق العزلة مستعد للاحتفال بحفل صاغب أو حفلة زار، أو حتى مرور جنازة في هذا البياض المضيء في الليل كل شيء هنا أبيض الأشجار والأسفلت وأسطح المنازل ماعدا لون بشرتي ،
أنا أصدق كل شيء يقال لي حتى الدهاء أسميه دعابة، أغفر لكن لا أنسى،
سذاجة رجل عاش في الريف ولم يخرج منه اأبدًا، أتحدث مع نفسي كطفل مع دميته وأغضب مثله وأكسرها، أكتب أيضًا بلغة عفوية وأمسح ما كتبته، أخاف أن يكون ما كتبته يغضب السلطان في بلاد الشرق في بلاد الضباب والثلج
لا أعرف كيف
يُفسرُون ما لَا يفَسرُ في الشرق...؟ لماذا يغضبون في بلاد الشمس...؟ أنصح دائِمًا يقول الفيلسوف الروسي " دوستوفسكي"
\"عندما تكون فرحًا ستقع في أخطأ كثيرة\" لكن هذا الكلام لا ينطبق على كل مكان وزمان وهنا مثلًا يمكنك أن ترتكب ما تشاء من أخطأ تحت فرح عاصف بلا أحكام ثقيلة ولا عقلية وصم، لا توجد عندي مشكلة مع أحد ولا مع نفسي، وحتى لو جلس الذئب الرمادي على عتبة الباب سيكون حضوره مُسليًا ومن الجميل أن تتكون ذاكرة
جديدة مختلفة بلا خوف ولا حروب ولا ضغائن ولا أضداد، مرة كان المطر يهطل علي قريتنا وصوت تكسر ناعم للحطب في الموقد وضوء /لمبة الجاز نمرة 5/ تخلق ظِلَالًا
عميقة على الحيطان، في غفلة نوم سريعة، سمعت موكِبًا يمر عبر النافذة،
سمعت أصوات دراويش ودوي الطبل والصنوج في المولد، لكن لا شيء في الخارج عدا البياض الثلجي: هو الماضي بلا شك يستعرض نفسه، أكثر ما يلفت النظر في كوخ منعزل هو لهب شمعة ومن لم يعش طوِيلًا في العزلة والسكون، لا يعرف كيف كانت الحياة يومًا كانت الأرض غمرًا،
وبياضًا وفراغًا
في مرحلة التكوين الأول كل لحظة هي أبدية هناك ولا يقاس الزمن بالسنوات، بل بالضوء والثلج والمطر والعاصفة والنار واحتراق شمعة، نوع من الخلود في لحظات بعد أن تشوه صورة العالم. ضوء المصباح لا يحفز على التخيل لأنه ظاهرة حديثة وعكس النار التي تطلق الخيال، لكن حذار من العزلة التامة لأنها لا تحتمل بلا صفاء داخلي وصلح مع الذات،
والعزلة بتعبير ،{الفيلسوف الألماني نيتشة} لا يتحملها غير إله أو وحش،
الإله مكتمل والوحش غير مدرك.، ليس لهب الشمعة ما يحفز على الخيال في العزلة فحسب،
بل رائحة عطر قديم ملتصق بجسدك وفي الجلباب الذي لا يفارقني في كل رحلة، وفي تأملات العزلة سترى العطر يمشي، وعلي عواء ذئب رمادي على قمر أبيض بعيد،
تحت الثلج وأمام المدفأة وخشب الصنوبر المتكسر، سوف تشعر أنك تتشكل الآن بذاكرة جديدة معطرة بالمطر والضوء والصمت... ليس سوى المطر خارج النافذة، المطر وحده وآثار أقدام غزال فوق الثلج.
الحياة تحتفل بعيدًا عن الضجيج، عالم مختلف عن عالمنا من العزلة والصمت...،،!!
محمد سعد عبد اللطيف ،كاتب وباحث مصري متخصص في علم الجغرافيا السياسية ،، !!
[email protected]