قصّة قصيرة مهداة إلى المفكّر الأستاذ منير شفيق.
قبل هذا اللقاء الجميل ، رنوت إلى وجهه المتغضّن، والمكتنز بألف همّ وغمّ ، فأبصرته مثل أرض عطشى هجرها ماء العزّ طويلا ، والآن أرى دموع الفرح المشتهاة تروي ظمأ هذا الوجه ، فترتق تلك الندوب التي خلّفتها الهزائمُ العديدة المرتسمةُ على قسماته منذ سبعةٍوثمانينَ عاماً فَيَتوَرَّدُ ويزهو ويزهر مجداًوعزّاً.
"يا ألله. ما أجمل هذاالوجهَ الصبوحَ الآن، لقدِ استعادَ تلك النضارةَ التي ارتسمتْ على مُحَيّاهُ قبل ثمانيةَ عشرَ عاماً، يومَ رأى ورأينا جيشَ العدوِّ يُجَرْجِرُ أذيالَ الخيبةِ والهزيمةِ، مُنسحباً مرذولاً من وادي الحجير - السلوقي، ومن القنطرة وبنت جبيل وعيتا وعيثرون، ومن غيرِ مكان دنَّسَهُ، بعدَ أنْ رمى خُردةَ دبّاباتِهِ المحترقةِ في وادي هونين، مُشكِّلاً مقبرةً كبيرةً ظنَّها تُخفي خسائرَهُ الفادحةَ عن عيونِ مُستَوْطِنِيه! (همست)
- أستاذ منير ، صف لنا شعورك بعد مشاهدتك طوفان الأقصى(قال المذيع)
لمعت عيناه ، قل برقت ، وشرعت دموعُ الفرح ِ ترسمُ خارطةَ الانقلابِ الكبيرِ الذي أحدثتْهُ هذه العمليّةُ الجريئةُ المدروسة بإتقان.
تنهّد وقال:
-قبلَ هذهِ الساعاتِ المعدودةِ التي تمكّن خلالها أبطالُنا من قَلْبِ صورةِ هذا الكِيان ِ الَّلقيطِ وقادتِهِ الحَمْقى المصابينَ بمرضٍ نفسيٍّ خطير، والمُستَقْدَمِينَ من شَتاتِ الأرض، المُنْتَفِخَةِ أذهانُهم بمبادىءِ عُنصريَّةٍ تُشَرِّعُ إبادةَ الحياةِ في أرضِنا المحتلّةِ وفي الجِوار، وقد تمكَن أبطالُنا من تمزيقِ صورةِ هذا "النتنِ ياهو" الذي يظنُّ نفسَه، لِفَرْطِ نَرْجِسِيَّتِهِ وَسَادِيَّتِه، نمرودَ هذا العصر، فيأمر ُ بِقَتْل ِ الأطفال ِ والنساءِ والرجال ِ والعجائز،وتَصوِيح ِ الشّجَر، وتدميرِ الحجر ، وبإعدام الحياة في كلّ مكان تطوله يداه المُلَطَّختانِ بالدم .
قَبْلَها،رَجَوْتُ اللهَ أن يُبِقيَني حيّاً لأراهُ ذليلاً يذرفُ دموعَ النَّدَمِ والحسرات على ماجنت يداه،وها أناذا، بفضلِ الله واستجابته دعائي، أعيش هذه اللحظات ِالعزيزةَ والتي فارَ فيهاالتنورُ،واندفعَ الغضبُ
الساطع، وأعاد صورةَ ذلكَ الزمن المقلوبة َ منذُ تلكَ النكبةَ العُظْمَى التي حلَّت بأُمَّتِنا، في تلك الحربِ المشؤومةِ العامَ سبعةً وستين.
يا ألله، انقلني إلى رحمتك الآن ، فأنا طلبتُ صورةَ نصرٍ واحدةٍ قبلَ رُجوعي إليك ، فإذا برحمتك الواسعةِ تمنحُنِي صُوَرَ نصرٍ عديدة ، فهذا الطوفانُ المجيدُ لم يكتفِ بقلبِ صورةِ هذا الكِيان ِ اللَّقيطِ فقط ،بل شرَعَ يَجرُفُ عنجهيَّةَ التفوُّقِ والاستكبارِ التي بدأت بشائرُ تمزيقِها في لبنانَ من قبلْ .
فشُكراً جزيلاً لك يا إلٰهي العظيم.
- العمرُ الطويلُ لك أُستاذ مُنِير ، وبعد ، أنتَ مُفَكِّرٌ نَذرْتَ نفسَك لهذِهِ القضيّةِ المقدّسة، فما الذي تراهُ بعد؟ وما هي قراءَتُكَ لهذا المشهدِ الجديد؟
-إنّني أسمعُ أجراسَ العودةِ تُقْرَعُ الآنَ منَ الكنائسِ، والتّكبيرات منَ الجوامع، وأرى هزيمةَ هذا الكِيان ِ متحقِّقةً بِإذن الله، على أيدي شرفاءِ هذا المِحورِ المقاوِمِ منْ طهرانِ العزّةِ إلى غزّة ، مروراً بصنعاء، وبغدادَ ودمشقَ وبيروت.
- بإذن الله ، لوُ تُفَصِّلُ لنا أهميّةَ هذا الطوفان ِ، في هذهِ اللحظاتِ الحاسمةِ من عُمْرِ هذهِ الأمّة، وهذا الزمن؟
- من كان يُصدِّقُ أنَّ أبطالَنا الشُّجعانَ قادرونَ على تحريرِ منطقةٍ واسعةٍ، في ساعاتٍ قليلة، ويسحبونَ جنودَ الجيشِ الذي كانَ لا يُقْهَرُ، من دباباتِ الميركافا التي يدّعون أنّها "عربةُ الربّ" التي كانوا يتحصّنونَ داخلها، وداخلَ جُدُرٍ عازلةٍ شديدةِ التّحْصين ، والتي لم تصمُدْ أمامَ جرَّافاتِنا المتواضعة، بل عَبَرَ فَوْقَها أولئكَ الأبطالُ الذين ركبوا الدراجاتِ الطائرة ؟
من كان يصدِّقُ أنَّهُم سيفوزون بالحصول ِ على تلكَ الحواسيبِ التي تُخزَّنُ فيها الخرائطُ، والخِطَطُ، والأفكارُ القاتلة؟
من كان يتصوّرُ أنَّ أبناءَنا يشقّونَ بطنَ الأرضِ، ليخرجوا من أنفاق أعدُّوها بعنايةٍ فائقة، لتكونَ منافِذَ عبورٍ ، ذهاباً وإياباً، إلى أرضِنا المُحتلّة؟
بل من كان يصدّق أنّ هذا الطوفانَ المباركَ يرفعُ قضيّةَ فلسطينَ ومظلوميَّتَها إلى شرفاءِ هذا العالمِ من جديد، بعدما كادتْ تُمْسي نَسياً مَنْسِيا، وبعدما هَرْوَلَتْ أنظمةٌ إلى التطبيع معَ هذا الكِيانِ الذي رسمَ معَ زارعيه وداعميه، في أرضِنا، خارطةَ الشرقِ الأوسطِ الجديد.
أنا الذي أبصرتُ كُلَّ هذا العزمِ والبأسِ والتخطيطِ والتنفيذ والبطولاتِ النادرة أكادُ لا أُصَدِّق، بل نحنُ كُلَّنا في حاجةٍ إلى وقتٍ لنستوعبَ أهميّةَ هذا الطوفانِ الكبير.
رحماك يا ربّي، ولك الحمدُ والشكرُ، يا أرحمَ الرّاحمينَ، ومبيد الظالمين.
- أللهمّ آمِّينَ يا ربَّ العالمين.
بعدَ مُتابعتي هذه المقابلةَ، تمنيّتُ لو كنتُ حاضراً قُرْبَهُ في هذِهِ اللحظةِ النادرةِ الّتي فارَ فيها تنّورُ رُوحِهِ، وشكَّلَ طوفاناً شَرَعَ يمسحُ تلكَ الهزائمَ العديدةَ التي تجرّعَ مراراتِها من قبلُ ، لِأُبارِكَ لَهُ، ولِأَطْبَعَ قُبْلَةً على جبينِهِ العالي.