مقال يتكرر كثيراً مع قرب شهر رمضان من كل عام، خاصة خلال السنوات العجاف الأخيرة، وتدهور مستوى الأحوال المعيشية للغالبية العظمى من المواطنين في مصر والوطن العربي، وعلى الرغم من ذلك فشهر رمضان لازال يشكل رمزية كبيرة لدى كافة الشعوب الإسلامية ومن بينها الشعوب العربية، ويحتفي به المصريون بشكل خاص، ويستعدون له بأشكال متنوعة، تعبر عن الفرحة والبهجة والسرور، وتمارس خلاله كافة أنواع الطقوس الخاصة، سواء كانت دينية أو اجتماعية أو ثقافية، لذلك يستعد له المصريون قبل قدومه بوقت كافي حيث يتم ادخار بعض الأموال التي سوف ينفقونها على الطقوس المختلفة، ففي الشوارع والحارات والأزقة وعلى واجهات البيوت وداخل المنازل وعبر الشرفات تعلق الزينات وتضاء المصابيح الملونة والفوانيس احتفالا وابتهاجا، ويتم التوافد على الأسواق لشراء السلع الغذائية المختلفة لزوم استضافة ودعوة الأهل والأقارب والأصدقاء سواء على موائد الإفطار أو السحور، وبالطبع لا ينسى المصريون شراء الياميش والحلويات التي تعد خصيصا لشهر رمضان، وهذا الاستقبال لشهر رمضان لا يعرف الطبقية فهذه الاستعدادات يقوم بها عموم المصريون من كافة الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية.
وفي ظل الأزمات الاقتصادية التي يشهدها كوكب الأرض، والتي تلقي بظلالها على مجتمعاتنا الإسلامية والعربية وبالطبع في القلب منها المجتمع المصري يصبح السؤال المشروع هل سيستقبل المصريون شهر رمضان كما كانوا يستقبلونه دائما في الماضي القريب ؟! وبالطبع الإجابة القاطعة تقول لا لكن ما يهمنا الآن هو السؤال عن الطبقات والفئات والشرائح الفقيرة والتي تمثل الآن الغالبية العظمى من المصريين، فالفقراء في أي مجتمع هم الميزان الذي يمكن أن نحكم به على أداء وكفاءة الحكومة، فما توفره الحكومة من فرص متجددة لهم عبر سياساتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية هي المعيار الحقيقي لنجاحها أو فشلها، فلابد لأي حكومة أن تكون منحازة بالدرجة الأولى لهؤلاء الذين يحتاجون لمن يمد لهم يد العون لمواصلة رحلة البقاء على قيد الحياة ليس أكثر وهم الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية التي لا تستطيع توفير حد أدنى من الحياة الكريمة بمفردها ودون دعم ومساعدة الدولة، فالفقراء داخل أي مجتمع هم الهم الأكبر للحكومة فإذا نجحت في مساعدتهم على تحسين مستوى معيشتهم ونقلهم من حد الكفاف وما دونه إلى حد الكفاية والستر تكون الحكومة قد نجحت في مهمتها الأساسية، وإن لم تتمكن من تحسين أوضاع الفقراء وازدادت معاناتهم وعوزهم في ظل حكمها تكون بذلك قد فشلت في المهمة الأساسية التي جاءت من أجلها إلى كراسي الحكم.
وبمراجعة تاريخنا الحديث والمعاصر تبرز في المشهد صورة الحكومات التي جاءت بعد ثورة يوليو 1952 وكان المجتمع المصري قبلها يشهد حالة من الاستقطاب الاجتماعي الحاد، فالغالبية العظمى من المصريين كانوا يقعون في خانة الفقراء الذين يصفهم علم الاقتصاد الآن بمن يعيشون تحت خط الفقر، ويصفهم علم الاجتماع بمن يقعون ضمن الشرائح والفئات والطبقات الاجتماعية الدنيا، وكانت المهمة الأساسية لهذه الحكومات كيف يخرجون هؤلاء الفقراء من المعاناة اليومية لتوفير احتياجاتهم الضرورية من أجل الحياة ؟، فكانت جملة السياسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية منحازة لهؤلاء والتي مكنتهم من تحقيق حد أدنى من الحياة الكريمة، فتغيرت الخريطة الطبقية للمجتمع المصري بشكل كبير في أقل من عقدين من الزمان، حيث ظهرت الشرائح والفئات والطبقات الاجتماعية الوسطى من المستورين على الساحة المجتمعية المصرية وتراجعت نسبة الفقراء بشكل ملحوظ، بفعل انحياز الحكومات للفقراء قولاً وفعلاً عبر سياساتها التي قلمت أظافر الاقطاع والرأسمالية التي نهبت لسنوات طويلة قوت الشعب وحولت غالبيته لفقراء ومعدمين.
ومع حكومات عصر الانفتاح انقلبت الصورة تماماً واختفت السياسات المنحازة للفقراء، وأعطت اهتمامها للشرائح والفئات والطبقات العليا داخل المجتمع، وخلال فترة السبعينيات اختلت الخريطة الطبقية للمجتمع المصري من جديد وبدأت مكتسبات المستورين تتآكل ويهبطون مرة أخرى لخانة الفقراء الذين لا يستطيعون توفير احتياجاتهم الضرورية للحياة، فكانت هبات الفقراء في وجه هذه الحكومات في 18 و19 يناير 1977 وهي ما عرفت بانتفاضة الخبز، ورفضت الحكومة تسميتها بمسماها الحقيقي وأطلقت عليها مصطلح انتفاضة الحرامية، ولعله من العجيب حقاً أن تصف حكومة غالبية شعبها بالحرامية حين يخرجون عليها مطالبين بحقهم في الحياة والعيش الكريم.
وانتقلنا لحكومات الثمانينيات والتي استمرت ثلاثة عقود كاملة توهم الفقراء بأنها تقوم بالإصلاح الاقتصادي والخصخصة وإعادة الهيكلة من أجلهم، بينما كانت سياساتها في جوهرها منحازة للأغنياء على حساب الفقراء، وكانت تنفذ روشتة وتعليمات صندوق النقد الدولي المجحفة، وهو ما نتج عنها مزيد من الديون وسقوط الغالبية العظمى من فئة المستورين التي تعرف بالطبقة الوسطى إلى فئة الفقراء التي تعرف بالطبقة الدنيا، وهو ما أدى في النهاية إلى خروج هؤلاء الفقراء يطالبونها بالرحيل، ويرفعون شعارات العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
ومع انتفاضة 25 يناير 2011 تعرضت أحوال المستورين إلى هزات كبيرة ألحقت عدد كبير منهم بالفقراء الغير قادرين على مواجهة أعباء الحياة اليومية، فإذا كان في الماضي فئة المستورين من الطبقة الوسطى هي من تشعر بالمعاناة وتهبط لتنضم لفئة الفقراء، فالآن بعض أبناء الطبقة العليا من الميسورين أصبحوا يشعرون بالقلق إزاء ارتفاع الأسعار بشكل جنوني بما يفوق قدراتهم، أما فئة الفقراء التي انضمت إليها مؤخراً أعداد هائلة فقد أصبحت على وشك الانفجار، خاصة وأن شهر رمضان على وشك المجيء والأسعار تشتعل بما يفوق قدرات الفقراء على تحملها في الوقت التي تقف فيه الحكومة عاجزة عن إيجاد حلول، فبدلاً من رفع رواتب العاملين بالقطاع الرسمي للدولة والذين لا يشكلون هم وأسرهم ٢٠٪ من المصريين، بينما يشكل العاملين في القطاع غير الرسمي وأسرهم ٨٠٪ من المصريين ( وحتى رفع الرواتب لن يجدي نفعاً مع الزيادة الرهيبة في نسبة التضخم ) فمن الأجدى مواجهة جشع التجار وضبط الأسواق والرقابة المشددة على أسعار السلع الأساسية للحياة.
وبالطبع لابد من حل سريع قبل قدوم شهر رمضان الذي يستعد له الغالبية العظمى من المصريين بكآبة وحزن وعجز، وهو ما دفع البعض بتقديم مقترح للحكومة بأن تقيم مائدة رحمن بطول وعرض الوطن لاستيعاب الفقراء خلال أيام الشهر الفضيل، وما ينطبق على مصر يمكن قوله وبشكل أكبر على المواطنين في العديد من الدول العربية والإسلامية، خاصة الدول التي تشهد حروب ونزاعات مصطنعة بفعل القوى الاستعمارية الغربية مثل سورية والعراق ولبنان واليمن والسودان، وبالطبع المعاناة أكبر وأعمق لدى شعبنا العربي الفلسطيني في الأراضي المحتلة، خاصة سكان قطاع غزة الذين يواجهون حرب إبادة، ولا يجدون ما يسد جوعهم وعطشهم، في ظل غياب تام للضمير الإنساني العالمي، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم/ د. محمد سيد أحمد