كتب الأستاذ نضال بركات
قبل الحديث عن معادلة الردع الاستراتيجية التي فرضها اليمن كجبهة اسناد للمقاومة التي تواجه حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة , لا بد من التذكير بقوة اليمن تاريخيا وما كان يطلق عليه " مقبرة الأناضول" وهو اسم أطلق على مذبحة حقيقية وكارثية للدولة العثمانية، وانتصار تاريخي لليمنيين الذين دافعوا عن وطنهم ضد غازٍ أراد اغتصاب وطنهم بالقوة الغاشمة، فسميت منطقة في اليمن بـ«مذبح» توثيقا حقيقيا لتلك الواقعة، وهذه المنطقة تقع غرب صنعاء ، وكانت نتيجة تلك الحملات المتعاقبة زمنيا أنه لم يسلم إلا خمسة آلاف جندي عثماني من أصل سبعة وثمانين الف جندي.
لقد كانت مذبحة حقيقية, فمن يتذكر هذه المذبحة يعلم جيدا ان اليمنيين يقاتلون ببسالة ضد أي معتد ولا يتراجعوا مهما كانت الظروف , حتى الحصار المفروض عليه استطاع تحويله إلى أداة قويه ومؤثرة بيده على الساحة الإقليمية , نظرا لموقعه الجيو سياسي فانعكس ذلك على المصالح الأمريكية وفشلت واشنطن في ترويضه , وهذا ما سبب القلق ليس للولايات المتحدة ولإسرائيل وإنما للغرب عموما , لانهم يعلمون جيدا أهمية باب المندب لمرور السفن التجارية العالمية إلى جميع المرافىء العالمية , فكان قرار اليمن إغلاق هذا الممر بوجه السفن الإسرائيلية حتى ان القوى الكبرى لم تستطع لي ذراعه رغم تعرضه للقصف من قبل الطائرات الحربية الأمريكية والبريطانية ولم يتراجع بل على العكس كان رده قويا ليس على السفن الحربية في البحر الأحمر وإنما صواريخه ومسيراته التي وصلت إلى اسرائيل إضافة إلى التنسيق مع المقاومة العراقية في قصف ميناء حيفا قبل أيام ...
ليس غريبا أن تتكالب القوى الكبرى وإسرائيل على هذه المنطقة , فقد اشارت دراسات استراتيجية أميركية عدة الى ان اغلاق مضيقي باب المندب وهرمز هو بمثابة امتلاك سلاح نووي لمحور المقاومة , وهو بالفعل كذلك نظرا لما شكله التحرك اليمني من خطر على مصالح إسرائيل والغرب عموما , وهنا لا بد من التذكير لما كانت قد وضعت إسرائيل في إستراتيجيتها لحرمان العرب من السيطرة على باب المندب بدءا بمحاولات التدويل والحصول على حق المرور الحر إلى تفكيك الوطن العربي كوحدة أمن قومي في الوقت الذي تعمل فيه ليل نهار لتنفيذ إستراتيجيتها في الهيمنة , ولكنها الآن لم تعد قادرة على تنفيذها لأن المعادلة تغيرت بعد السابع من أكتوبر الماضي وطوفان الأقصى الذي أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة من أدراج النسيان وتضامن الشعب العربي مع القضية الفلسطينية إضافة إلى تضامن الراي العام العالمي الذي كشف حقيقة الكيان الصهيوني الإجرامية , ما فرض معادلة جديدة قد تؤدي إلى نهاية الكيان الصهيوني خاصة وأن جبهات الإسناد للمقاومة في غزة فاعلة في الميدان وفرضت معادلة استراتيجية على أرض الواقع ومنها اليمن , ولهذا فإن مضيق باب المندب له أهمية استرايتيجة كبرى في خدمة الأمن القومي العربي و وهو يعتبر مفتاحًا للسيطرة على البحر الأحمر والنفوذ على بحر العرب والمحيط الهندي خاصة وأنه يمر عبر هذا المضيق من 15 إلى 20 بالمئة من التجارة العالمية لتتضاعف أهمية هذه المنطقة دوليا ومن كل الجوانب السياسية والعسكرية والأمنية والإقتصادية , ونظرا لهذه الأهمية أستطاع اليمن فرض معادلة قوية داعمة للشعب الفلسطيني في مواجهة الكيان الصهيوني ، لتتصاعد حدة العمليات العسكرية اليمنية وفق قواعد صحيحة ثابتة وتنفيذ عمليات عدة لضرب مواقع الاحتلال بصواريخ باليستية وطائرات مسيرة لتربك اسرائيل إضافة إلى استهدافهم للسفن الإسرائيلية أو المملوكة لإسرائيليين ومنعهم من العبور عبر باب المندب إلى البحر الأحمر , فكانت جبهة اسناد قوية للفلسطيينيين رغم أن اليمنيين يعانون من الحرب والحصار جراء العدوان السعودي من خلال عاصفة الحزم منذ آذار عام 2015 والتي شكلت خلالها السعودية تحالفات تفككت فيما بعد وبسرعة غير متوقعة , وهذا ما يؤكد قوة وبسالة الشعب اليمني في مواجهة العدوان والتكاتف مع قوى المقاومة لمواجهة الكيان الغاصب ...
لقد حققت العمليات العسكرية اليمنية مفعولها وشكلت خطرا على اسرائيل ، لتزداد المخاوف الأمريكية كلما تعززت الخيارات الاستراتيجية اليمنية في اختيارها لبنك أهداف جديدة، وهو ما تم بالفعل من خلال منع أي سفن تنقل وتحمل بضائع لداخل الأراضي المحتلة، واضعا بذلك معادلة وموازين قوية هي الدخول والسماح للسفن بالعبور للكيان الإسرائيلي مربوط برفع الحصار عن قطاع غزة ومن كل الجوانب.
إن الخيارات الاستراتيجية العسكرية والمواقف اليمنية القوية شكلت ضربة قاصمة للجانب الأمريكي العالمي وحضوره البحري ، رغم محاولاته تدويل الممرات البحرية وإنشاء قوة عالمية لحمايتها في إطار استخدام ردها على الموقف اليمني باستهداف السفن الإسرائيلية ومنعها من العبور ، وفشلت جميعها وما يؤكد ذلك هو قرار البحرية الاميركية سحب حاملة الطائرات " ايزنهاور " والسفن المرافقة لها وهذا لا يمكن تصنيفه الا بالانكسار ليضع القوات المسلحة اليمنية في الواجهة كمؤثر بمساحة مائية هي جزء من المجالات الحيوية المائية العالمية , والإنكسار الأمريكي يشير إلى أن اليمن استطاع تغيير مفهوم المعركة البحرية من خلال مواجهة اساطيل كبيرة ب اسلحة صغيرة وغير مكلفة.
إن هذا التغيير كان نتيجة معادلة الردع التي فرضتها القوات اليمنية من المحيط الهندي الى البحر الابيض المتوسط مرورا بالبحر الاحمر , لتتطور هذه الخيارات بإعلان القوات اليمنية لموقف تصعيدي يمنعون من خلاله مرور كافة السفن إذا كانت وجهتها الأراضي المحتلة، وستكون هدفا مشروعا , وهنا أدخلت القوة اليمنية وفرضت معادلة ردع وتوازن جديدة.