د. مصطفى يوسف اللداوي
الدوحة - قطر
ارتقى القائد إسماعيل هنية إلى العلى شهيداً، ورحل إلى جوار ربه راضياً مرضياً، وسَعِدَ مع الأنبياء والصديقين والصالحين، والتحق بمن سبقه من الشهداء إلى جنان الخلد من أهله وولده، وأحبابه وأحفاده، وجيرانه وأصدقائه، وإخوانه وأصحابه، وأبناء شعبه الذين حزن لحالهم، ورَقَّ لأوضاعهم، وتألم لمعاناتهم، وعمل جاهداً لنجاتهم، وبذل حياته من أجلهم، وسعى ما استطاع لإنقاذهم، واستعادة بلادهم، وتحرير وطنهم، وعودة أبنائهم الأسرى أعزةً أحراراً من سجون العدو ومعتقلاته، وما ادخر جهداً ولا وفر وقتاً في سبيل أهداف شعبه العليا، وغاياتهم السامية، التي آمن بها وضحى في سبيلها، وختم حياته وهو يدافع عنها ويسعى لتحقيقها.
رحل هنية وعينه على فلسطين لم تغب، وقلبه على غزة يضطرب، وعيونه إليها ترحل، ونفسه إلى العودة إليها تهفو، فغزة تسكنه وتعيش في قلبه بين الحنايا والضلوع، ومخيمه الشاطئ يتجذر في أعماقه وطناً، ولا يغيب عن ذاكرته يوماً، ففيه ولد ونشأ، وفي أزقته كبر ودرج، وعلى بيته فيه حافظ وما فرط، وقد عرفه سكان مخيمه وأهل منطقته وأحبوه شاباً، وعرفوا خلاله وأحبوا شمائله ابناً لهم، وقد عهدوه طويلاً ملتزماً مساجدهم، ولاعباً في ملاعبهم، ومدرساً للقرآن وحافظاً له ومعلماً لأولادهم، ثم فخروا به نائباً عنهم وممثلاً لهم، ثم رئيساً لحكومتهم وخادماً لهم وراعياً لشؤونهم، وقد أدركوا صدقه فأحبوه، ولمسوا إخلاصه وصدقوه، وعملوا معه ولازموه.
وما نسي يوماً وطنه الكبير فلسطين، ولا غابت عنه القدس والأقصى، ولا شطب من حساباته النقب وحيفا، ولا الجليل وعكا، ولا تسرب اليأس يوماً إلى قلبه، ولا عرف القنوط في دربه، ولا شكا من تعب، أو تذمر من نصب، ولا انكسرت ارادته، أو لانت عريكته، ولا أضعفته دمعةٌ أو أدمته حسرةٌ، ولا أضناه فقدُ ولدٍ أو رحيلُ حفيد، بل بقي حتى شهادته شامخاً كجبال القدس والخليل، وسهوب حيفا والجليل، فهو يؤمن أن فلسطين كلها له ولشعبه وطناً، وللأجيال من بعدهم سكناً، ويقينه بالله عز وجل أن الغد مهما تأخر فسيكون لهم، وستطلع الشمس على أرضهم وهي محررة، وهم فيها أسياداً بررةً، فهذا وعد الله الخالد لأمته.
لعله اليوم في عليائه لا يشعر بحزنٍ ولا جوى، ولا يشكو من ضيقٍ ولا نوى، ولا يعاني من ظلمٍ ولا أسى، ولا يقلق من حرمان ولا قلى، فهو في كنف الرحمن ورعايته، وفي جوار ربه وصحبة خير خلقه، لكنه حزينٌ على شعبه، ومتألمٌ لحالهم، ويخشى على مصيرهم، ويتمنى لو صلح حالهم، وتحسنت ظروفهم، وانتهت معاناتهم، واتفقت فصائلهم، واتحدت قواهم، وأخلص قادتهم، وأنهوا خلافاتهم، ووضعوا حداً صادقاً لانقسامهم، وأصبحوا في مواجهة عدوهم جبهةً واحدةً، وإرادةً موحدة، وصوتاً ممثلاً لهم معبراً عنهم، يوحدهم ولا يفرقهم، ويمثلهم ولا يجزئهم، فشعبهم الذي قدم وأعطى، وقاوم وضحى، يستحق منهم الإخلاص له، والعمل من أجله، والوفاء له والصدق معه.
ولعله وهو الذي ترأس حركته، وكان رئيساً لمكتبها السياسي، فجمع أقطابها، ووحد صففها، وتوسط بينها، ونظم عقدها، ورصع جمعها، واعتصم وإخوانه بحبل الله المتين ونهجه القويم وتمسك بها، وكان رؤوفاً بها حريصاً عليها، رائداً لها وخادماً لأبنائها، وقد شهد له إخوانه والمحبون أنه كان وسطاً عدلاً، سهلاً ليناً، أليفاً مألوفاً، صادقاً محبوباً، يستشير ولا يجور، ويشارك ولا يتفرد، ويتنازل ولا يعاند، ويصغي ويسمع، ويلين ويخضع، هادئاً لا يغضب، وحكيماً لا يشتط، ووسطاً لا يتطرف، وعدلاً لا يظلم، يبش في وجه إخوانه، ويشاركهم أفراحهم، ويخف ليكون معهم في أحزانهم، يتصل ببعيدهم، ويطمئن على مريضهم، ويقلق على غائبهم، ولا ينسى صديقاً قديماً ولا أخاً بات غريباً.
ربما كان الشهيد يتمنى أن يستمر عدله، وأن يتواصل نهجه، ويتواصى خلفه، فتجتمع كلمة إخوانه من بعده على رجلٍ يجمع كلمتهم، ويوحد صفهم، ويواصل دربهم، ويقيم الحق بينهم، ويتمسك بالثوابت ولا يفرط، ويصر على الحق ولا يساوم، ويتواضع فيهم ويعدل بينهم، ويكون قريباً من الكل، محباً للجميع، مستفيداً من كل الطاقات، موظفاً لكل القوى، حريصاً على العمل، ومخلصاً في الحكم، عاملاً بجدٍ، مترفعاً عن كل عيبٍ، فلا يجور ولا يظلم، ولا يقصي ولا يبعد، ولا يحرم ولا يمنع، ولا يعاقب مزاجاً ولا يُقرب إلا صادقاً، ولا يصغي وشايةً ولا يسمع إلا نصيحةً، ولا يصنع حاشيةً ولا يخلق جوقةً، بل يكون بالحق صادحاً وبالعدل حاكماً.
يغيب عنا الأخ إسماعيل هنية ولكنه يتمنى على من يخلفه، أن يجعل فلسطين همه، وحاجة شعبه غايته، ومصلحة وطنه دليله، فلا يتحالف إلا مع من ثبت صدقه، وجرب جده، وأخلص عمله، ولا يبتعد عمن كان معه ووقف إلى جانبه، ولا يتخلى عمن يعرض خدماته ويقدم مساعداته، ولا يحابي على الحق، ولا يجافي على الموقف، فالحق بَيِّنٌ والباطلُ بَيِّنٌ، فلا يضل الطريق، ولا يزيغ عن الصواب، ولا يغتر بالوعود، ولا يستجيب للإغراء، وليكن مع من يحب فلسطين ويخلص لها ويعمل من أجلها، شعوباً ودولاً، ولا يضيره المستنكفون، ولا يحزنه المتنكبون، ولا يضعفه المتولون.
سلام الله عليك أبا العبد، سلام الله عليك في الخالدين، وهنيئاً لك صحبة الأنبياء الأخيار والشهداء الأبرار، وجعل خَلَفك من بعد بعدك صدقاً وعداً، حكماً وسطاً، رحمةً عدلاً، لا يضيع الأمانة، ولا يضل الطريق، ولا يحيد عن الدرب، ولا يفرط في الحق، ولا يخلف الوعد، ولا ينكث العهد، ولا يفض الجمع، ولا يفتت الصف، ويلقى الله عز وجل حافظاً للأمانة وصائناً للحق، ثابتاً على الدرب، وفقه الله وأيده، وسدد خطاه وحفظه، وأعانه وسهل مهمته، وهيأ له بطانة الخير وشورة الحق، وأنجز على يديه وعده، وحقق هدفه، وأفرح شعبه، وأذل عدوه.
يتبع ......