وقفة مع منهج الدعوة والدعاة في القرآن الكريم
مقالات
وقفة مع منهج الدعوة والدعاة في القرآن الكريم
د. محمود عبد الفتاح المقيد
25 أيلول 2024 , 11:52 ص


بقلم: د. محمود عبد الفتاح المقيد
حقا يكمن الخلل دوما في التفكير، وفي طبيعة فهم الأمور، وفي انعدام الرؤية أو قصورها، لذلك فالكثير من دعاتنا مع الأسف الشديد يفتقرون لأبسط مقومات العمل الدعوي، الذي يتطلب التحلِّي بالنزعة الإنسانيّة الرَّاقية التي يتضمنها القرآن الكريم، على سبيل المثال لديَّ سؤال مهم إلى كل أولئك الذين يؤرقهم مصير أهل الكتاب الأخروي! هل تراهم يؤرِّقُهُم مصيرُنا كذلك يا أستاذ ؟! الجواب: الاختلاف بين الديانات قائمٌ لا محالة ولا سبيل إلى محوها أو تجاهلها أو التعامل بعنصرية مقيتة أو بعدم المساواة، والحل يكمن في تعزيز نقاط الالتقاء والتركيز عليها بدلا من تفخيمها وتعظيمها وزرع بذور الكراهية والفتنة في صفوف الأمم والمجتمعات.. إننا      نريد خطابا دينيا وسياسيا يبني ولا يهدم، ويُجَمِّع ولا يُفَرِّق ويُحيي ولا يُميت !
الثقافة الغالبة علينا ثقافة الاعتداد بالرأي، وعدم الاعتراف بالخطأ، بل وتبريره، والإصرار عليه والدفاع عنه، ويصاحب ذلك شعور متضخم بالذات وتقديس لها يصل إلى الحالة المَرَضِيَّة !
وفي يقيني .. أن الحزبية المتعصبة التي تقوم على غسل الأدمغة ، وتحويل أعضائها إلى أدوات تتحرك بغير إرادة أو عقل تقف من وراء ما ذكرنا من ثقافة غالبة !
وهذا أمر مخالف لنهج القرآن الكريم، فالقرآن يُعَلِّمُنا من خلال سِيَرِ الأنبياء والصالحين من أتباعهم الاعتراف بالخطأ والرجوع عنه والتوجه إلى الحق إذا ما اتضحت معالمه ! ولنتأمل مثلا قول سيدنا آدم وزوجه: "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أنْفُسَنَا"، وقول سيدنا يونس: "سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ "، وفي موقف آخر لأبي الأنبياء سيدنا إبراهيم (ع) إذ يقول: " والذي أطمعُ أنْ يَغفرَ لي خَطِيْئَتِي يومَ الدِّينِ"، وفي موقف مشهود يدعو الرِّبِّيُونَ الذين يُقاتِلُون مع الأنبياء: " رَبَّنا اغْفِرْ لنا ذُنُوبَنا وَإسْرَافَنَا في أمْرِنَا .. "، والتنزيل الحكيم يُنمِّي لدينا خُلُق الاعتراف بالخطأ، وضرورة مراجعة الذات، من خلال الارتقاء بالنفس التي تُمارس النقد الذاتي إلى مقام القَسَم بها: " وَلَا أُقْسِمُ بالنفسِ الْلَوَّامَةِ ". 
وقد حدّد القرآن العظيم عددا من صفات عباد الله أُولي الألباب، فهم "يستمعون القولَ فَيَتَّبِعُون أحْسَنَهُ "، وليسوا بآلاتٍ جامدةً صمَّاء لا تفقه ولا تعي ما تسمعه من مواقف وأقوال ! ولو عُدنا لسيدنا إبراهيم (ع) وأمعنّا النظر في دعائه ومخاطبته لربّ العزة حينما تحدث عن قومه الذين ظلموه واضطهدوه: "فمَنْ تَبِعَنِي فإنّه مني ومَن عصاني فإنك غفور رحيم". 
ونقول للإخوة الذين تجشموا عناء الدعوة والعمل الدعوي: بالله عليكم .. ارجعوا إلى الحوار الذي سجَّله القرآن الكريم بين "إبراهيم" وأبيه في سورة " مريم "، سنجِدُ خطاب إبراهيم ينضح بالود والرحمة، وعرض الأدلة الدامغة التي تستثير العقل والوجدان، ويبدو من خلالها حرص سيدنا "إبراهيم" الشديد على هداية أبيه!! واللافت للنظر أنَّ تودد إبراهيم لأبيه كي يعبد الله وحده قد بلغ مداه .. ترى ذلك في تكرار خطابه لأبيه أربع مرات متتاليات بقوله : " يا أبتِ ! " هذه الصيغة من النداء المفعمة بقيم الحب والرحمة والإخلاص .. لكن العَجَبَ يأخذك إلى منتهاه عندما تكتشف أن هذا الأب الجافي لم يقابل هذا التودد الرحيم والممتد إلا بهذه الكلمة العاتية المستكبرة : " قال أرَاغِبٌ أنتَ عَنْ آلِهَتِي يا إبراهيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيَّاً " وعندها فقد تسامى جواب " إبراهيم " إلى الأُفقِ الأعلى، وهو يقابل هذا العناد والجحود بقوله الرحيم والرؤوم: " سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لكَ رَبِّي". وأما الأدب الجمَ والخُلُقُ الرفيع فتراه أروع ما يكون في خطاب " إبراهيم " لأبيه وهو يقول: " يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ " 
أين هذا السُّمُوُّ في التعبير والخطاب من الخطاب الفظ الغليظ الذي يقيم من بينك وبين من تدعوه حجابا سميكا كثيفا ؟! إنه لم يقل له: يا أبت إنك جاهل ! بل: " قد جاءني من العلم ما لم يأتك" ! والمعنى واحد! ولكنه الأدب يا سادة، فهل يرتفع دعاتنا إلى هذ المستوى  في خطابهم الدعوي ؟!
وفي موقف مُشابه جاء على لسان سيدنا عيسى (ع) مخاطبا الحق تبارك وتعالى بحق قومه الذين وصفوه بالألوهية وبالغوا في إجلاله وتوقيره: "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم". ففي الآية الكريمة نجد أن سيدنا عيسى – وهو النبي المعصوم- استعطف ربّه سبحانه بالمغفرة والرحمة لقومه بقوله: "فإنّهم عبادك"، ليدلل على القرب والمودّة من الله تعالى، ثم أردف قائلا: "وإن تغفر لهم"- وكأنّه يحثّه ويدعوه سبحانه للمغفرة والرحمة - وهو أهل للمغفرة والعفو-، فإنّ الله عزيز، وهي عزّة امتناع، فإن الله هو الغنيُّ بِذاتِهِ، فلا يحتاج إلى أحدٍ، ولا يبلغُ العبادُ ضُرَّهُ فيضرّونَه، ولا نفعه فينفعونه.. وصفة "الحكيم" أي صاحب البينة والعلم، فالحكمة تقتضي الصلاح والإصلاح في شؤون الخلق، فقد اطَّلعَ سبحانه عليهم، وعلم سرائرهم، ولعل من حكمته وفضله على العباد أن يغفر لهم ويعفو عنهم ..
ولا يفوتني أن أذكر في هذا المقام ذلك الموقف الجليل الذي يجب أن يقف عنده الدعاة في زماننا وفي كل زمان ليستلهموا منه الدروس والعِبَر الجمّة، إنه موقفٌ دعويٌّ جميل لجماعة نبي الله داود (ع) في سورة سبأ، حينما توجّهوا إلى قومهم المعاندين الذين عصوا نبيَّهم، وكذّبوا برسالته قائلين: "قُل مَن يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنَّا أو إياكم لعلى هُدَى أو في ضلالٍ مُبِين"، حيث لم يَجزم أولئك الدعاةُ الطَّيبون الحُكماء بصحّة منهجهم وسلامة دعوتهم – رغم أنها كذلك – بل تركوا الأمر لكل عاقلٍ ذي بصيرة ليحكم بنفسه بعد أن يقارن بين الفريقين، ثم لنتأمل ما ورد في الآية التالية من رُقِيٍّ وسموٍّ أخلاقي رفيع، حيث يقول سبحانه: "قُلْ لا تُسألون عمَّا أجرمنا ولا نُسْألُ عمّا تعملون"، هنا وصف أولئك الدعاة الحكماء عملهم بالإجرام – وحاشاهم – وحينما توجّهوا لقومهم واصفين ما يقومون به بحق نبيّهم ورسالته نراهم يستخدمون لفظ (عمّا تعملون)، وليس عمّا تُجرمون أو تفترون أو ما شابه ذلك من ألفاظ يعج بها قاموس كثير من الدعاة في زماننا للأسف.. أما صاحب الحكم والفصل بين كلا الفريقين فهو الله سبحانه يوم القيامة، لأنه هو وحده يعلم حقيقة العباد وسرائرهم وما تُخفي صدورهم، ولذا فالكلمة الفصل فيما بين الفريقين لله وحده، ولذا جاءت الآية التالية لتعزّز هذا المعنى الحضاري الراقي، فيقول سبحانه: قُل يجمعُ بيننا ربنا ثمّ يفتح بيننا بالحقّ وهو الفتاح العليم". 
ومن هنا، فإن وظيفة الداعية ليس إدخال الناس في الجنة أو النار، أو الحكم عليهم بالضلال أو الهلاك في الآخرة، وإنما تقتصر تلك المهمة الجليلة على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والإحسان في القول والعمل، وترك الحكم على العباد وتصنيفهم إلى مؤمنين وكفار لله تعالى، مع ضرورة التأكيد على أن يكون الداعية قدوة حسنة ومَثَلاً يُحْتَذَى به قولا وعملا، لكي يعكس صورة مًشرقة عمّا يدعو إليه، ولكي لا يكون عائقا للإصلاح والتغيير في المجتمع. 
إن الإسلام الحقّ غير ذي صلة بالتديّن قاسي القلب، المُتَّسِمِ بالغلظة والفظاظة..، والذي يؤسس للقطيعة مع الناس، ويرى أنّ الأصل في العلاقة بيننا وبين غيرنا الكراهية، أو الحرب والقتال، ولعل في أُذُنَي البعض وقرًا، وعلى قلبه غشاوة، فلم يسمع ولم يتدّبر قوله تعالى: "إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم". إن الاختلاف في الدين بحدّ ذاته لا يعني بالضرورة العداء والكراهية والقطيعة ! بل نحن مأمورون بالبرّ والقسط إليهم، فالحق سبحانه يقول: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم، إنّ الله يحبُّ المقسطين". فالمؤمنون لا يصدر منهم أذى لأحدٍ كائنا مَن كان إلا دفاعا عن النفس والوطن والكرامة وفقَ الفهم القرآني الرفيع..
ReplyForward
المصدر: موقع إضاءات الإخباري