في السابع من تشرين الاول/ اوكتوبر ٢٠٢٣ اجتاح طوفان الاقصى الجغرافيا السياسية والعسكرية لمنطقة الشرق الاوسط، وهددت تداعياته ونتائجه ركائز الاستقرار الموهوم الذي عملت عليه امريكا والغرب وعربهم لعقود. ثلاثة عقود من الصراع في ثلاثة مناطق حساسة ١-افغانستان واوكرانيا ٢- الصين ومحيطها ٣- الشرق الاوسط. كلها قضايا شائكة وحادة بالنسبة للامبراطورية الامريكية.امام الاخفاقات الامريكية المتتالية للسياسة الامريكية في تطويع هذه المشاكل بما يتناسب مع طموحاتها ومكانتها العالمية كاعظم قوة تهيمن على السياسة الدولية بدأ المحللون الاقتصاديون والسياسيون والعسكريون يطرحون مسألة سقوط الامبراطورية الامريكية.السؤال لماذا الاَن؟ وما هي المؤشرات الدالة على ذلك ؟ والاهم من ذلك هو الوضع العياني الملموس لامريكا الذي بات يطرح السؤال على صانع القرار الامريكي ما طرحه لينين قبل قرن من الزمن (( ما العمل )) ؟
مع بداية القرن السادس عشر ظهرت امبراطوريات عدة مثل امبراطورية " المينج"في الصين والامبراطورية العثمانية في تركيا وطليعتها الامبراطورية المغولية وامبراطورية موسكوفي وامبراطورية " تاكوجاوا" اليابانية ومجموعة الدول الاوروبية.كلها تمددت جغرافيا الى الحد الاقصى الذي استطاعت بلوغه، اما لماذا تقدمت الدول الاوروبية على بقية الامبراطوريات لترسم خارطة العالم الجيو سياسية في القرن السادس عشر وما بعده؟ مثل اسبانيا، وهولندا، وفرنسا والامبراطورية البريطانية والروسية، والصراع مع بعضها البعض وخاصة الامبراطورية الفرنسية عندما قام الجيش الفرنسي الكبير البالغ قوامه ستمائة الف جندي بقيادة نابليون بغزو روسيا في حزيران / يونيو عام ١٨١٢م ودخل موسكو بعد معارك دامية والتي غادرها اهلها مدمرين اياها.وفي العام ١٨١٤م زحفت الجيوش الروسية الى الغرب ودخل القيصر الكسندر باريس فاتحا خلف الوية الجيوش القوقازية المكونة من ثمانمائة الف مقاتل.احتشدت الجماهير الفرنسية في ميادين باريس تهتف بحماس Vive l empereur Alexender يعيش الامبراطور الكسندر.بعد ذلك صارت روسيا القيصرية وبريطانيا القوتان المهيمنتان في اوروبا.
سقطت امبراطوريات وصعدت اخرى، اما اسباب سقوط الامبراطوريات المشرقية فلانها عانت من تداعيات السلطة المركزية التي اصرّت على انتظام المعتقد والممارسة ليس فقط في دين الدولة الرسمي، لكن الاهم في النشاطات الاقتصادية والتجارية وتطوير الاسلحة.ان عدم وجود هذه السلطة العليا في اوروبا والمنافسات العسكرية والحربية بين دولها المختلفة وممالكها المتعددة ودول المدن حفزت البحث الدائم عن التطور العسكري والذي ادى الى تكنولوجيا وتجارة متقدمة وحديثة.لكن الامبراطوريات التي صعدت في مرحلة تاريخية محددة ووصلت الى مرتبة القوى المتقدمة عالميا لم يستطع بعضها البقاء على ما وصل اليه، والسبب يعود الى معدل النمو الاقتصادي اللامتساوي ضمن هذه القوى المتقدمة والاختراعات التكنولوجية والتنظيمية التي تؤدي الى تمايز وتفوق مجتمع ما عن الاخر.هذا يؤدي حتما الى القدرة على الانتاج وتحمل التبعات المالية لتغطي الانتاج الهائل للاسلحة في وقت السلم وادامة واستمرارية تزويد الجيوش الكبيرة والاساطيل بما تحتاجه في اوقات الحرب.اذن الثروة مطلوبة لدعم القوة العسكرية، والقوة العسكرية مطلوبة للحصول على المزيد من الثروة من خارج الحدود الوطنية وحمايتها، وهذا يؤدي جدليا الى التوسع الجغرافي عسكريا ويثير الحروب المكلفة.وعندما يصل التوسع الى اقصى حدوده فان موارد الدولة يجب ان تخصص للحفاظ على المركز المتقدم.واذا ما تم تحويل الجزء الاكبر من موارد الدولة ووسائل اعادة انتاج الثروة للاحتياجات العسكرية، واذا ما تعرض اقتصادها الى الانخفاض والتوقف عن النمو فانها تجازف بكل ما حققته من انجازات.مثال ذلك تفكك الاتحاد السوفياتي الطوعي نتيجة عجزه اقتصاديا وماليا عن الوفاء بمتطلبات البقاء والثبات في المراكز المتقدمة.اما الاختيار الطوعي فلان الدول المتقدمة والمتنافسة يحكمها سلاح الردع النووي.سبقت بريطانيا الاتحاد السوفياتي بالتخلي طوعا عن مكانتها بعد الحرب العالمية الثانيةنظرا للخسائر البشرية والمادية والاقتصادية التي تكبدتها في حربين عالميتين متتاليتين الفاصل بينهما عقدين من الزمن.
في الوقت الراهن صعدت الصين كقوة اقتصادية هائلة ونهضت روسيا بوتين من سباتها وشكل الثنائي الصيني الروسي اداة صد وردع للتغول الامريكي اقتصاديا وعسكريا وسياسيا وينافس امريكا في كل الميادين،ويسعى لانزال امريكا عن عرش القطب المتفرد في ادارة الشؤون الدولية وخلق (( نظام دولي جديد متعدد الاقطاب وعادل))وتشكلت من اجل هذا الهدف النبيل تكتلات اقتصادية وامنية دولية واقليمية مثل مجموعة دول البريكس ومنظومة شنغهاي للامن.
ان امريكا الان لا تستطيع تجنب الامتحان الصعب الذي تعرضت له بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية وتفكك الاتحاد السوفياتي الطوعي في اوائل تسعينيات القرن الماضي.وهي ترفض وتقاوم بشدة التأقلم مع الظروف العالمية المتغيرة، لكنها عاجزة في الوقت نفسه عن الحفاظ على " المركز الاول" في الشؤون الدولية سواء في المجال العسكري/ الاستراتيجي والتوازن المعقول لمتطلبات الامة الامريكية من جهة وتجنب التاَكل والانحطاط امام الانماط المتبدلة للانتاج العالمي والذي تشكل اسيا ميدانه وفي القلب منه الصين والهند وايران.
امام هذه الامتحانات الصعبة التي لا تسمح لامريكا بخوض حروب كبرى بسبب الردع النووي والاقتصاد المتهالك فانها لن تستطيع اعادة عقارب الساعة الى الوراء مهما اثارت من حروب دموية موضعية كما يجري في الشرق الاوسط الان من خلال قاعدتها في الاقليم الكيان الصهيوني.
سوف تواجه امريكا السقوط عبر انفصال الولايات الحق الذي يكفله الدستور الامريكي وعبر حروب اهلية وليس سلميا كما تفكك الاتحاد السوفياتي
ليس وهما ان تسقط الامبراطورية الامريكية وتعود كدولة عظمى داخل حدودها الوطنية، لكنها ستقاتل حتي الفيلق الاخير.
م/ زياد ابو الرجا