ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن عقيدة الانتصار لدى المقاومة، وبالطبع لن تكون الأخيرة مادام العدو الصهيوني لازال يحتل الأرض العربية في فلسطين ولبنان وسورية، والتي نؤمن بأنها حالة استثنائية في تاريخنا، حتماً سوف تزول بزوال هذا الكيان الغاصب، الذي هو أوهن من بيت العنكبوت كما كان يؤكد سماحة السيد الشهيد حسن نصر الله، فمع وقف إطلاق النار في غزة انطلقت أصوات من هنا وهناك، منها ما هو شريف ويؤكد على انتصار شعبنا العربي الفلسطيني المقاوم في غزة والذي صمد صموداً أسطورياً في مواجهة الآلة العسكرية الصهيونية المجرمة ولم يستسلم رغم حرب الإبادة، ومنها ما هو خسيس ويؤكد على هزيمة المقاومة وانتصار العدو الصهيوني، ويستند أنصار هذا التيار الانهزامي الخسيس لحجم الخسائر المادية والبشرية التي قدمها شعبنا الفلسطيني البطل والشجاع داخل قطاع غزة، فقد قام العدو الصهيوني بقصف البشر والحجر، حيث تم تدمير ٩٠٪ من البنية العمرانية لغزة، مع ٥٠ ألف شهيد، وأكثر من ١٠٠ ألف جريح، ولهؤلاء نقول ليس هكذا تقييم نتائج الحروب، خاصة إذا كانت الحرب تتم بين جيش نظامي محتل ومغتصب للأرض وبين مقاومة وطنية شعبية تدافع عن ترابها الوطني، فالتقييم وفقاً لحسابات الخسائر المادية والبشرية لا تصلح لمثل هذه الحالة الاستثنائية، لذلك لابد من البحث عن وسائل أخرى للتقييم.
وفي هذا الإطار يمكن تقييم الحرب وفقاً للأهداف المعلنة للعملية العسكرية الصهيونية على غزة والتي استمرت ٤٧١ يوماً، فقد كانت أولها هو القضاء على حماس، وثانيها هو تحرير الأسري الصهاينة بالقوة، وثالثها هو تهجير سكان قطاع غزة وتوطينهم على الأرض المصرية في سيناء، فتحقيق الأهداف هو الفيصل في أي عمل عسكري وإلا سيكون عملاً عبثياً، فالحرب لا يحكم عليها بحجم ما حققته من دمار وخسائر بقدر ما يحكم عليها بتحقيق أهدافها التي انطلقت بالأساس لإنجازها، ووفقاً للأهداف المعلنة يمكننا تقييم الحرب بهزيمة العدو الصهيوني وانتصار الشعب والمقاومة الفلسطينية البطلة والشجاعة في غزة، فالأهداف المعلنة لم تتحقق عبر الآلة العسكرية الصهيونية المجرمة فالهدف الأول لم يتحقق ولازالت حماس موجودة وتقف على قدميها ولم ترمي سلاحها ولم ترفع راية الاستسلام داخل القطاع بل وتديره أيضاً، والهدف الثاني لم يتحقق أيضاً فالأسرى الصهاينة لم يتم تحريرهم بالقوة بل تم عبر صفقات وتفاوض وتسوية مع المقاومة مقابل الافراج عن بعض الأسرى في سجون الاحتلال والانسحاب من قطاع عزة وعودة سكانه لبيوتهم حتى ولو كانت مهدمة، والهدف الثالث لم يتحقق فالشعب الفلسطيني في غزة لازال متشبث بأرضه رغم كل الخسائر المادية والبشرية ولم تفلح الآلة العسكرية الصهيونية من تهجيرهم قسرياً وتوطينهم على الأرض المصرية في سيناء وهو ما رفضته مصر حفاظاً على بقاء القضية الفلسطينية واستمرار جذوة النضال الفلسطيني من أجل تحرير ترابه الوطني.
وعلى الرغم من تأكيدنا على انتصار المقاومة الفلسطينية البطلة والشجاعة على العدو الصهيوني في هذه الجولة وفقاً لتقييم الحرب على أساس الأهداف المعلنة للحرب وليس وفقاً للخسائر المادية والبشرية، إلا أن هذا التقييم لا يعني أن العدو الصهيوني لم يتم استنزافه عبر هذه الحرب، وتقديمه ضريبة دم فادحة وخسائر مادية هائلة لم يشهدها في تاريخه، ورغم عمليات التعتيم على هذه الخسائر إلا أننا سوف نستشهد هنا بما صدر عن إعلام العدو ومؤسساته الرسمية ومنها مكتب الإحصاء الإسرائيلي ووزارة المالية الإسرائيلية، فهناك ما يقرب من ٣ ألاف قتيل وما يزيد عن ١٠ ألاف جريح، وإجمالي الخسائر وصلت إلى ٦٧ مليار دولار، والخسائر العسكرية وصلت إلى ٣٤ مليار دولار، و٤٠ مليار دولار عجز في الميزانية العامة للكيان، و٦٠ ألف شركة أغلقت أبوابها في عام ٢٠٢٤، وانخفاض أعداد السائحين ٧٠٪ بخسائر وصلت إلى ٥ مليارات دولار، وخسائر قطاع البناء وصلت إلى ٤ مليارات دولار هذا إلى جانب إفلاس ٧٠ شركة في هذا القطاع، لقد أصبح ٣٠٪ من سكان الكيان يعيشون تحت خط الفقر، و٢٥٪ من سكان الكيان يعانون من انعدام الأمن الغذائي، هذا بالطبع بخلاف هجرة عكسية اقتربت من مليون مستوطن صهيوني، هذا جزء من خسائر العدو الصهيوني التي يتغافل عنها أنصار التيار الانهزامي الخسيس عند تقييمهم للحرب على أساس المكسب والخسارة المادية والبشرية.
وهنا وقبل أن نختم عملية التقييم لابد من لفت الانتباه أنه عندما نحاول قياس النصر أو الهزيمة في أي مواجهة قادمة مع المقاومة، علينا أن ندرك فلسفة المقاومة في هذا الشأن، فالمقاومة لديها فلسفة خاصة عند دخولها في أي مواجهة مع العدو الصهيوني، حيث تعتبر كل مواجهة هي انتصار في حد ذاته، ذلك لأنها حين تقتل قوات العدو فتنتصر عليه، وحين يقتلهم العدو يفوزون بالشهادة وهي أعلى مرتبة يمكن أن ينالها المقاوم، وهي أعلى وأسمى مراتب الانتصار، فهم فائزون في كل الأحوال، وهذه الفلسفة التي اختصرها سيد المقاومة وشهيدها الأعظم سماحة السيد حسن نصر الله بعبارة بالغة الدقة تقول " نحن لا نهزم، عندما ننتصر ننتصر، وعندما نستشهد ننتصر"، وهذا يعني أن الانتصار هو عقيدة المقاومة، لذلك لا عجب من مشهد الاحتفالات في غزة يوم الأحد الماضي ومع وقف إطلاق النار فقد كان الخروج مذهلاً، حيث أكد الشعب الفلسطيني أن غزة عصية على الغزاة، فقد أفشل شعبها المخطط الصهيوني لتهجيرهم من أرضهم، وكانت لحظة الاحتفال مع العودة للأرض وإقامة الخيام فوق الركام، وظهور أبو عبيدة القائد الملثم ليقول "لقد واجهنا عدونا بالإيمان مع القليل من السلاح فيما استعان عدونا المجرم بأقوى دول عسكرية مدته بكل الذخائر"، ورغم ذلك انتصرت غزة، والقادم هو تحرير كامل التراب العربي المحتل، وزوال كيان الاحتلال الصهيوني على يد المقاومة التي لا تعرف الهزيمة، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم / د. محمد سيد أحمد