في خضم التحولات المتسارعة على الساحة الدولية، تعود الولايات المتحدة إلى طاولة التفاوض مع إيران، بعد سنوات من سياسة “الضغط الأقصى” التي انتهجتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، هذه العودة ليست مجرد انعطافة دبلوماسية، بل تعكس بوضوح التحولات في موازين القوى، وتؤشر إلى واقع جديد لم تعد فيه أمريكا اللاعب الأوحد القادر على فرض إرادته دون مقاومة.
ففي عام 2018، انسحبت إدارة ترامب من الاتفاق النووي الذي أبرمته إدارة أوباما مع إيران عام 2015، مدفوعة برؤية تعتبر أن الاتفاق فشل في كبح نفوذ طهران الإقليمي. تبع ذلك حملة عقوبات اقتصادية غير مسبوقة هدفت إلى إخضاع إيران وفرض شروط جديدة للتفاوض. إلا أن هذه السياسة لم تحقق أهدافها، بل زادت من تعقيد المشهد، وأجبرت واشنطن لاحقًا، في عهد بايدن، على السعي مجددا إلى فتح قنوات للحوار، وإن بصورة غير مباشرة.
هذه العودة إلى التفاوض تعكس، في جوهرها، إدراكا أمريكيا بأن سياسة العزل لم تفلح في إضعاف إيران، وأن المقاومة الإيرانية، سياسيا وعسكريا واقتصاديا، أثبتت صلابة أمام الضغوط الغربية والخليجية. بل إن طهران، على العكس، عمّقت تحالفاتها، وحافظت على حضورها المؤثر في ملفات المنطقة، وصولاً إلى الصراع المباشر مع الكيان الصهيوني.
على الجانب الاقتصادي، تعاني أمريكا من تحديات بنيوية تؤثر في قدرتها على مواصلة هيمنتها المالية، فمنذ فرض العقوبات المتتالية على عدد من الدول، ومنها روسيا والصين وإيران وفنزويلا، تصاعدت الدعوات في أوساط تلك الدول إلى التحرر من هيمنة الدولار في المبادلات التجارية، هذا التوجه، الذي تقوده دول من مجموعة “بريكس”، بدأ فعليا في تقويض تداول الدولار عالميا، مع تقديرات تشير إلى تراجع الاعتماد عليه بنسبة تقارب 20٪ في بعض القطاعات الدولية.
هذا الواقع فرض على الإدارة الأمريكية، لا سيما في عهد ترامب، تبني سياسة التعرفات الجمركية بدلا من سياسة التيسير الكمي (طباعة الأموال) التي استخدمت في أزمة 2008. والسبب واضح: طباعة كتل نقدية كبيرة مع تراجع تداول الدولار عالميا كان سيقود إلى تضخم مفرط وربما انهيار في قيمة العملة الأمريكية.
في ضوء ذلك، يمكن فهم استراتيجية ترامب وامتداداتها بأنها اعتراف غير مباشر بتراجع مكانة أمريكا العالمية، ومحاولة لتثبيت الهيمنة عبر الضغط الاقتصادي وتحجيم الخصوم واحدا تلو الآخر، مع العمل على تفكيك تحالفاتهم وتأخير مشاريعهم الاستراتيجية، وعلى رأسها مساعي “بريكس” لإصدار عملة موحدة بديلة للدولار.
أما إيران، فهي في موقع صلب ضمن محور المقاومة، الذي لا يزال يحتفظ بقوته رغم محاولات الحصار والعزل. الأحداث الأخيرة في فلسطين المحتلة والهجوم الإيراني غير المسبوق على الكيان الصهيوني، إضافة إلى تماسك جبهات المقاومة في لبنان واليمن والعراق، كلها تؤكد أن محور المقاومة ليس في موقع دفاع، بل في موقع ردع استراتيجي.
ختاما، تبدو إمكانية الهجوم الأمريكي على إيران مستبعدة جدًا في الظروف الراهنة، ليس لأن واشنطن لا تملك القدرة العسكرية، بل لأن ارتدادات أي هجوم ستكون باهظة الثمن، وقد تفوق قدرة أمريكا على التحمل في ظل أزمتها الاقتصادية والمالية المتفاقمة.
إن ملامح النظام العالمي الجديد بدأت تتشكل، ومعها تتغير قواعد اللعبة، ومن الواضح أن إيران ليست الحلقة الأضعف كما يصوّرها الإعلام الخليجي والغربي، بل طرف فاعل ومؤثر في صياغة مستقبل المنطقة.



