في زمنٍ أصبح الإعلام فيه هو السلاح الأقوى، والأكثر تأثيرا على العقول والقلوب، نرى مشهدا مرعبا لتشظّي هذا السلاح، وتحوّله من أداة نصرة للحق إلى وسيلة تبرير للظلم، ومن منبرٍ لرفع الصوت الإنساني إلى بوقٍ لتلميع القتلة والمجرمين
فما نراه اليوم من انقسام في وسائل الإعلام يكشف عن أزمة أخلاقية كبرى، بل عن انهيار شامل لقيم المهنة والضمير الإنساني.
فمنها من يدافع عن الكيان الصهيوني بشكل فج، ويبرر مجازره بحق النساء والأطفال الأبرياء، عبر قلب الحقائق وشيطنة أصحاب الأرض، المقاومين الشرفاء الذين يدافعون عن وجودهم، عن كرامتهم، عن جذورهم، عن أطفالهم الذين لا يجدون مأوى ولا دواء ولا حتى ماء.
ومنها من يقف في صف الكيان الغاصب بكل وضوح، دون مواربة، يصف الاحتلال بـ”الدولة”، والمقاومة بـ”الإرهاب”، ويُظهر الجلاد في ثوب الضحية، والضحية في هيئة المعتدي.
ومنها من يُنفق جهده ووقته في زرع الفتن داخل الأمة الإسلامية والعربية، يفخخ الصفوف، ويُضعف الهمم، ويثبّط العزائم، ويجعل من الانقسام والتخوين والصراع الداخلي أولويته، في وقت يتطلب الوحدة والصدق والنفير العام.
ومنها من ينشغل بتغطية الحفلات والمهرجانات والمسلسلات والأفلام الفارغة من أي مضمون، وتُقدَّم هذه التفاهات وكأنها قضايا مصيرية، بينما تُباد مدينة بأكملها، وتُذبح الإنسانية في غزة، ولا تُعطى حتى دقيقة واحدة في نشرات الأخبار.
ومنها من يغرق في دوامة المشاكل السياسية الداخلية، في صراعات السلطة، ومجالس البرلمان، وكأن العالم من حوله لا ينهار، وكأن أطفال غزة لا يُنتشلون من تحت الركام كل ساعة.
ومنها من ينقل أخبار المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني بشكل خجول، باهت، لا ينسجم مطلقا مع هول الكارثة، ولا يُعبّر عن حجم الدماء المراقة، بل يُسهم في تطبيع القتل، وتبسيط الألم.
ومنها من يُغطّي الجرائم في غزة طول اليوم، لكن بنوايا خبيثة، هدفها ليس نصرة الضحية، بل كسر المعنويات، ترسيخ صورة “الهزيمة”، وإقناع المشاهد بأن الكيان الصهيوني “دولة طبيعية”، وأن المقاومة عبء وعقبة، كما تفعل قناة الجزيرة مثلاً، التي تُغرقنا بالتقارير والصور والمشاهد، ثم تفتح نافذتها لتحليلات تُرسّخ اليأس، وتُساوي بين المجرم والضحية.
ومنها من يقيم المسابقات الترفيهية في عزّ المجازر، وكأن دم الأطفال ليس له قيمة، وكأن المشهد لا يعنيهم، فيهرّبون المتلقي من الواقع إلى الوهم، ومن الحقيقة إلى الخيال.
ومنها من يُطبّل للملوك والرؤساء، يُظهرهم كأبطال، في حين أنهم لم يُحرّكوا ساكنًا، لا بيان، لا موقف، لا دعم حقيقي، لا فعل، فقط كلمات باردة تُلقى في المحافل.
ومنها… ومنها… أمثلة كثيرة تفضح واقعا إعلاميا بائسا، يُدين نفسه كل يوم أمام مشاهد الدم والركام والصراخ والعجز.
فهل هذا هو الإعلام الحقيقي؟
أين الرسالة؟ أين القضية؟ أين الهدف؟
أين الحسّ الإنساني؟ أين الموقف الأخلاقي؟
هل وظيفة الإعلام أن يُرضي الحكام؟ أن يجمّل صورة المحتل؟ أن يُخدر الشعوب؟ أن يُغرق الناس في التوافه؟
أين هي القنوات التي كانت تُبشّر بالكرامة والحرية؟ أين من كانوا يدّعون الانحياز للحق؟
لماذا هذا الصمت؟ ولماذا هذا الانحراف؟
في الوقت الذي يُحرَق فيه أطفال غزة بالنار والفسفور، وتُبتر أطرافهم تحت الأنقاض، ويُدفَن الآباء والأمهات تحت الركام، يقف الإعلام – أو أكثره – موقف المتفرج، أو المتواطئ، أو المخادع.
إنه إعلام لا يمثلنا.
إعلام فقد إنسانيته، ومهنيته، وشرفه.
إعلام يفضح نفسه بنفسه كل يوم، حين يسكت عن الدم، ويزيّن صورة القاتل، ويشغلنا عن القضية، ويجعل من التفاهة أولوية.
نحن في زمنٍ يُختبر فيه الضمير.
وفي هذا الزمن، ليس الصمت فقط جريمة، بل التلاعب بالحقيقة، وتزوير المواقف، وتزيين الباطل، هو خيانة كبرى.
فيا إعلامنا العربي والإسلامي…
إما أن تكونوا مع الحق، أو اصمتوا.
أما التلاعب، فثمنه دم، وثمنه نار، وثمنه لعنة التاريخ.



