لقد شكّل تعلم التحكم بالنار نقطة تحول محورية في تاريخ الإنسان القديم، إذ مكّنه من طهي الطعام، والرؤية ليلاً، وتحمل درجات الحرارة الباردة، إضافة إلى تعزيز التفاعل الاجتماعي داخل الجماعات.
وعلى الرغم من أن مهارة إشعال النار تعود إلى أكثر من مليون سنة مضت، فإن قيمتها تزداد في فترات بيئية معينة، وعلى رأسها فترة الذروة الجليدية الأخيرة (LGM)، التي تُعد من أشد فترات العصر الجليدي قسوةً على الإطلاق.
- لغز قِلّة المواقد في أشد عصور الجليد
رغم أن البرد القارس كان يفرض الاعتماد على النار للبقاء، تشير الأدلة الأثرية إلى قلة استخدام البشر للنار خلال الذروة الجليدية الأخيرة، التي امتدت من نحو 26,500 إلى 19,000 سنة مضت.
ومن هنا انطلقت دراسة علمية حديثة، بحثا عن إجابة لهذا الغموض، عبر تحليل ثلاثة مواقد قديمة اكتُشفت في موقع أثري بأوكرانيا، يُعرف باسم "كورمان 9"، والذي ارتبط بسكنى الإنسان خلال تلك الحقبة المتجمدة.
- نتائج مذهلة: مهارة نارية متقدمة في عصور التجمد
أظهرت الدراسة أن هذه المواقد تعود إلى فترة العصر الحجري القديم الأعلى، وهي فترة تمتد لآلاف السنين الباردة، ورغم ندرة المواقد في السجل الأثري، فإن ما كُشف يُظهر براعة بشرية مذهلة.
يقول الباحث ويليام ميرفري، من جامعة "الغارف" في البرتغال:
"نعلم أن استخدام النار كان شائعا قبل وبعد هذه الفترة، لكن الأدلة من قلب العصر الجليدي نادرة للغاية".
تشير الأبحاث السابقة إلى أن النار كانت عنصرًا أساسيًا في حياة البشر خلال العصر الحجري الأعلى، إذ ساعدتهم في الطبخ، وصناعة الأدوات، وعقد التجمعات الاجتماعية.
- صراع مع الطبيعة: تحديات بيئية وظروف قاسية
يشير الباحثون إلى أن أوروبا خلال تلك الحقبة شهدت "تدهورًا مناخيًا سريعًا"، حيث سادت ظروف شديدة البرودة والجفاف، مما تسبب في تراجع المواطن الطبيعية وعزل المناطق جغرافيًا.
وفي ظل تلك الظروف، من غير المنطقي أن يقل استخدام النار، ما يدفع إلى تساؤلات حول نقص الأدلة الأثرية.
ربما ساهم نقص الأشجار في السهول والبراري في تقليص مصادر الوقود، أو أن الظروف المناخية بعد تلك الفترة دمرت بقايا النيران القديمة.
كما لا يُستبعد وجود تحيّز في الدراسات والمنشورات الحديثة أدى إلى تضخيم هذا النقص الظاهري.
- تحليل المواقد: تقنيات دقيقة ونتائج صادمة
درس الباحثون المواقد الثلاثة باستخدام تقنيات جيوأثرية متقدمة، شملت التحليل المجهري للطبقات، والفحوص اللونية، والتحليل المجهري البنيوي.
وقد كشفت النتائج أن المواقد كانت مفتوحة وعلى أرض مستوية، واستخدم البشر الخشب كوقود أساسي فيها، مع حرارة أرضية وصلت إلى 600 درجة مئوية، ما يدل على احترافية نارية عالية.
ورغم غياب كتل الفحم الكبيرة، أظهر التحليل أن خشب التنوب كان الأكثر استخدامًا، كما وُجدت بقايا عظام حيوانية محترقة بدرجات حرارة فاقت 650 درجة مئوية، ما يطرح تساؤلات حول استخدام العظام كوقود أو احتراقها بالصدفة.
- المواقد الثلاثة: وظائف متنوعة أو فترات زمنية مختلفة؟
الفروقات بين المواقد تشير إلى احتمال استخدامها في فترات زمنية متباعدة، أو ربما كانت جزءا من استخدام متخصص داخل مجتمع واحد يتنقل موسمياً.
يقول الباحث فيليب نيغست، من جامعة فيينا:
"أظهرت نتائجنا أن البشر في تلك الحقبة كانوا يتحكمون بالنار بشكل مثالي، ويستخدمونها لأغراض مختلفة حسب الحاجة، بل وكانوا يعودون إلى نفس المواقع في فصول مختلفة خلال هجرتهم السنوية."
- ما الذي يُخفيه التاريخ؟ تساؤلات تحتاج إلى إجابات
رغم أن الدراسة تؤكد احتفاظ البشر بمهاراتهم النارية خلال الذروة الجليدية الأخيرة، إلا أن الحاجة ما زالت ملحة لتفسير غياب الأدلة في مواقع أخرى معاصرة.
يتساءل الباحث ميرفري:
"هل دُمّرت أغلب الأدلة بفعل تجمد وتذوب التربة المتكرر في العصر الجليدي؟"
ويضيف نيغست:
"هل عجز الناس عن إيجاد الوقود الكافي؟ أم أنهم طوروا تقنيات بديلة للاستمرار دون الاعتماد على النار؟"
تكشف هذه الدراسة عن جانب مدهش من براعة الإنسان القديم، وتعيد رسم صورة القدرات التكنولوجية في أزمنة كنا نظن أنها قاحلة وظروفها لا ترحم.
ربما لا تزال الأرض تُخفي أسرار نيران دافئة أشعلها الإنسان في أقسى عصور البرد، وما علينا سوى أن نبحث عنها بلهفة العالِم وشغف المؤرخ.



