تُعد منارة الإسكندرية واحدة من أبرز الشواهد على عبقرية الإنسان في العصور القديمة، فقد كانت لا تُضيء طريق السفن فحسب، بل أضاءت أيضا صفحات التاريخ بحضورها الفريد كرمز للتقدم والابتكار. شُيّدت هذه التحفة المعمارية في القرن الثالث قبل الميلاد على جزيرة فاروس، لتكون بذلك أول منارة بحرية في العالم، وأصبحت فيما بعد نموذجا يُحتذى به في تصميم المنارات حول العالم.
- أصل التسمية والموقع الجغرافي
يرتبط اسم "منارة الإسكندرية" باسم الجزيرة التي أُقيمت عليها، وهي جزيرة فاروس، التي تقع في مواجهة الساحل الشرقي لمدينة الإسكندرية المصرية، ومع مرور الزمن أصبحت كلمة "فاروس" مرادفا لكلمة "منارة" في عدة لغات أوروبية، مما يدل على مدى تأثيرها العالمي.
- تاريخ البناء وراعي المشروع
بدأ تشييد المنارة في عهد بطليموس الأول سوتر (حوالي 305–282 ق.م)، واكتمل بناؤها في عهد ابنه بطليموس الثاني فيلادلفوس، أوكلت مهمة التصميم إلى المهندس اليوناني سوستراتوس الكنيذي، الذي نقش اسمه خفية على أساس البناء، خلف اسم بطليموس، تخليدًا لمساهمته المعمارية.
- الهيكل المعماري والإبداع الهندسي
بلغ ارتفاع المنارة ما بين 100 إلى 140 مترا، مما جعلها ثاني أطول بناء صنعه الإنسان في العالم القديم بعد الهرم الأكبر. كانت المنارة تتكوّن من ثلاثة أقسام رئيسية:
1. القاعدة المربعة: مبنية من الحجارة الضخمة، وتضم غرفا ومخازن.
2. البرج المثمّن: يرتفع فوق القاعدة، ويضم السلالم والممرات.
3. البرج الدائري العلوي: يعلوه تمثال كبير يُعتقد أنه للإله بوسيدون أو الإسكندر الأكبر.
وكانت النار تُشعل في قمة المنارة ليلاً، بينما تُستخدم المرايا البرونزية الضخمة لعكس ضوء الشمس نهارا، لتوجيه السفن القادمة إلى ميناء الإسكندرية.
- أهمية المنارة في العصور القديمة
لم تكن منارة الإسكندرية مجرد بناءٍ لإرشاد السفن، بل كانت رمزا للحضارة الهلنستية، ودليلاً على التقدم المعماري والعلمي في ذلك العصر، كما لعبت دورا استراتيجيا في الدفاع عن الميناء، إذ مكّنت الحراس من مراقبة تحركات السفن القادمة من مسافات بعيدة.
- الزلازل وسقوط الأسطورة
استمرت المنارة في أداء وظيفتها لأكثر من 1500 عام، لكن الزلازل المتكررة التي ضربت منطقة البحر الأبيض المتوسط بين القرنين العاشر والرابع عشر، وخاصة زلزال عام 1303م، أدت إلى تدمير أجزاء كبيرة منها، إلى أن اندثرت تماما.
وفي عام 1480م، أمر السلطان قايتباي ببناء قلعة في موقع المنارة السابق باستخدام بعض حجارتها، وهي قلعة قايتباي الشهيرة التي ما تزال قائمة حتى اليوم.
- المنارة في التراث والحضارة الإنسانية
خلّدت منارة الإسكندرية في العديد من الكتب والخرائط والرسومات القديمة، كما ألهمت الكثير من المعماريين في تصميم المنارات اللاحقة، وقد اعتبرها المؤرخون القدماء إحدى عجائب الدنيا السبع، نظرًا لضخامتها، وتقنيتها المتقدمة، وأثرها الكبير في الملاحة والتجارة.
- الاكتشافات الأثرية والبعثات الحديثة
في عام 1994، تمكّن فريق من علماء الآثار بقيادة الدكتور جان إيف إمبيريه من العثور على بقايا ضخمة من الحجارة والتماثيل العملاقة في قاع البحر قرب قلعة قايتباي. وأثبتت هذه الاكتشافات أن الموقع كان بالفعل يحتوي على معالم المنارة، وتعمل الحكومة المصرية حاليًا على إدراج هذه الآثار ضمن مشروع متحف تحت الماء.
- خاتمة: منارة لا تغيب عن الذاكرة
رغم مرور القرون على زوال منارة الإسكندرية جسديا، فإنها ما تزال حاضرة في وجدان الإنسانية بوصفها منارة للعلم، والفن، والابتكار، لقد أرست هذه الأعجوبة القديمة معايير ما تزال تبهرنا حتى اليوم، وتُعد درسًا خالدًا في قدرة الإنسان على تجاوز حدود الواقع لبناء الأسطورة.



