كشف فريق بحثي بقيادة العالمة كارولين آجو-فرانكلين من جامعة رايس عن نوع من البكتيريا يمتلك قدرة فريدة على "التنفس" من خلال إطلاق الكهرباء بدلاً من استخدام الأكسجين، مما يفتح آفاقا جديدة في مجالات الطاقة النظيفة والتكنولوجيا الحيوية الصناعية.
وقد نُشرت هذه الدراسة في مجلة Cell العلمية الرائدة، كاشفةً عن آلية تنفس فريدة تمكّن هذه الكائنات المجهرية من العيش في بيئات خالية من الأوكسجين، عبر دفع الإلكترونات خارج أجسامها إلى الوسط المحيط.
- التنفس الكهربائي: آلية طبيعية مستترة
عادةً ما تعتمد الكائنات الحديثة، بما في ذلك الإنسان والنباتات، على الأوكسجين في عملياتها الاستقلابية لتوليد الطاقة. إذ يعمل الأوكسجين كمستقبل نهائي للإلكترونات في سلسلة التفاعلات الحيوية.
لكن البكتيريا، التي سبقت الكائنات المعقدة على الأرض بمليارات السنين، طوّرت استراتيجيات تنفس بديلة تتيح لها العيش في بيئات لا تحتوي على أوكسجين مثل فوهات أعماق البحار أو الأمعاء البشرية.
وقد كشف الباحثون أن هذه البكتيريا تستخدم مركبات طبيعية تُدعى نفتوكينونات (naphthoquinones) لنقل الإلكترونات إلى الأسطح الخارجية، عبر عملية تُعرف بـ التنفس خارج الخلية، وهي تشبه إلى حد كبير تفريغ التيار الكهربائي في البطاريات.
- حل لغز علمي طويل الأمد
لطالما لاحظ العلماء هذا النمط الغريب من التنفس دون فهم دقيق لآليته، ما جعله بمثابة "صندوق أسود" في علم الأحياء الدقيقة. لكن الدراسة الجديدة بقيادة جامعة رايس نجحت في كشف التفاصيل الدقيقة لهذه الآلية، ما يُشير إلى أن التنفس الكهربائي قد يكون أوسع انتشاراً في الطبيعة مما كان يُعتقد سابقاً.
ويصف الباحث المشارك بيكي بابي كوندو، وهو طالب دكتوراه في جامعة رايس والمؤلف الأول للدراسة، الآلية بأنها:
"طريقة بسيطة وعبقرية للتنفس، حيث تقوم النفتوكينونات بدور سُعاة جزيئية تنقل الإلكترونات إلى الخارج، مما يمكّن البكتيريا من تحليل الغذاء وإنتاج الطاقة دون أوكسجين."
تعاون الباحثون من جامعة رايس مع مختبر بالسون في جامعة كاليفورنيا – سان دييغو لتجريب فرضياتهم باستخدام نمذجة حاسوبية متقدمة. وقد أظهرت المحاكاة أن البكتيريا تستطيع بالفعل البقاء حية من خلال تفريغ الإلكترونات إلى أسطح موصلة للكهرباء في غياب الأوكسجين.
وأكدت التجارب المخبرية هذه النتائج، حيث استمرت البكتيريا في النمو وإنتاج الكهرباء عندما وُضعت على أسطح موصلة، وكأنها "تتنفس" عبر هذه الأسطح المعدنية.
- دمج الأحياء بالكيمياء الكهربائية: رؤية تكنولوجية مستقبلية
يكشف هذا البحث عن تفاعل مذهل بين علم الأحياء والكيمياء الكهربائية، ما يمهّد الطريق لتقنيات مستقبلية تعتمد على استخدام البكتيريا في توليد الطاقة، أو حتى مراقبة البيئات الحيوية والتحكم فيها كهربائيا.
ويؤكد الباحثون أن هذا الاكتشاف يعمّق فهمنا لتنوع الاستقلاب البكتيري ويمنحنا وسيلة لمراقبة سلوك البكتيريا وتوجيهه إلكترونيا في الزمن الحقيقي.
يمكن لهذا الاكتشاف أن يحدث تحولاً كبيرا في مجالات متعددة منها:
معالجة مياه الصرف الصحي: من خلال تحسين توازن الإلكترونات.
التصنيع الحيوي: باستخدام البكتيريا كمصدر طاقة بديل ودقيق.
الاستشعار البيولوجي: عبر أجهزة تعتمد على البكتيريا في رصد التلوث البيئي أو تشخيص الحالات الطبية في بيئات خالية من الأوكسجين.
استكشاف الفضاء العميق: حيث تُمثّل هذه البكتيريا خياراً واعداً للحياة في بيئات غير مؤهلة كيميائيا.
وتختتم آجو-فرانكلين قائلة:
"نحن نضع الأسس لتقنية تتيح للبكتيريا استخدام الكهرباء المتجددة لتحويل ثاني أكسيد الكربون، تماماً كما تستخدم النباتات ضوء الشمس في عملية البناء الضوئي، إنها بداية لتقنيات أذكى وأكثر استدامة يكون فيها علم الأحياء في صميم الابتكار."
يمثل هذا الاكتشاف قفزة علمية كبيرة في فهم قدرات الكائنات المجهرية، ويفتح آفاقا واسعة لبناء تقنيات بيولوجية–كهربائية متكاملة تُسهم في حل أزمات الطاقة والتلوث، بل وتمهّد الطريق لاستكشافات جديدة في البيئات القصوى التي تعجز الكائنات الأخرى عن البقاء فيها.


