تحقيق صحفي – بدور الديلمي -اعلامية يمنية
في التاسع من ذي الحجة، تكتظ عرفات بقلوب جاء أصحابها من أقاصي الأرض، ملبيّن نداء السماء. ترتفع أصواتهم بخشوع، متوحدين على اختلاف لغاتهم، مرددين:
"لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك..."
تغتسل الأرواح في عرفة، وتذوب الذنوب على جبين الشمس. إنه يوم لا يشبه سواه، حيث يُرجى فيه العتق، وتُرفع فيه الدعوات، ويُختبر فيه الصدق والإخلاص.
لكن بينما تُرفع أكفّ الحجيج في صعيد عرفات طلبًا للرحمة، هناك في رُكن آخر من الأرض... في غزة، ترتفع أكفّ الأطفال لا تسأل شيئًا سوى: النجاة.
في عرفات... دعاء، وفي غزة... استغاثة
يوم عرفة هو مشهد السلام المطلق: لا قتال، لا جدال، لا دماء. بينما في غزة، كل يوم هو يوم فقد، وكل لحظة تشبه القيامة.
أطفال غزة لا يعرفون عرفة، لكنهم يعرفون العطش، ليس عطش الحاج الذي يُروى بماء زمزم، بل عطش المحاصَر الذي تنفد عليه مياه الحياة في منتصف الطفولة.
تتردد التلبية في عرفات... وتتردد صرخات الأطفال تحت الركام في غزة.
ما أشد التناقض، وما أعمق الجرح حين تُقابل نشوة القرب من الله في الحرم، بصراخ أطفال يموتون جوعًا وخوفًا، أمام مرأى العالم وصمته.
"لبيك اللهم لبيك"... فهل من سامع لصوت غزة؟
التلبية في جوهرها تعني الاستجابة، تعني أنك حاضرٌ لله بكلك: بقلبك، وبدعائك، وبنصرتك للمظلوم.
لكن هل تكفي التلبية إن لم تتبعها نجدة؟
هل نلبي نداء الله وننسى نداء الإنسانية؟
هل يُغفر الذنب لمن يغضّ بصره عن جريمة تُرتكب كل يوم بحق شعب أعزل، وأطفال حُرموا من كل شيء – حتى من فرصة البكاء في حضن أمٍّ باقية؟
من عرفات إلى غزة: خيط الدعاء الذي لا يجب أن ينقطع
ربما لا يستطيع الحاج أن يحمل السلاح، لكنه يحمل ما هو أعظم: الدعاء، والنية، والصدق في التوسل إلى من لا تُرد له دعوة في يوم عرفة.
في لحظة السكينة تلك، حين ينكسر القلب بين يدي الله، فلنكن أمناء على دماء أطفال غزة.
فلنذكرهم بالاسم، بالصورة، بالحلم الذي دُفن تحت الردم، بالحقيبة المدرسية التي صارت كفنًا، بالضحكة التي تحوّلت إلى دمعة، والسرير الذي صار شاهد قبر.
غزة اليوم ليست فقط مسؤولية المقاوم، بل أمانة في عنق كل مسلم في عرفة.
فكما كانت زمزم استجابة لنداء أمٍّ مذعورة بأرض قاحلة، فإن غزة اليوم هي نداء أمٍّ تبحث عن طفلها تحت الأنقاض، وتنتظر استجابة لا من ملك، بل من بشر يسمعون ويرون.
ختامًا:
قد تنتهي رحلة الحج، ويعود الحجيج مغفورًا لهم، لكن هل يعود الضمير العربي من حجّه عن مشاهد غزة؟
في يوم التلبية، نرجو أن نسمع صوتًا آخر:
صوتًا من عرفات يُعلن: "لبيك يا غزة... نحن هنا".
بقلم /الاعلامية بدور الديلمي -اليمن



