نجح فريق بحثي دولي في إجراء أول تسلسل جينومي كامل لبقايا إنسان مصري قديم عاش خلال فترة محورية في تاريخ مصر الفرعونية، تحديدا بين عامي 2855 و2570 قبل الميلاد، وهي الحقبة الانتقالية بين عصر التوحيد السياسي وبداية الدولة القديمة.
نُشرت هذه النتائج في مجلة "نيتشر" (Nature) المرموقة، حيث تم تحليل رفات رجل دُفن في إناء فخاري مغلق بإحكام في قرية النويرات جنوب القاهرة، ما مكّن العلماء من الكشف عن خليط وراثي غير متوقع يُلقي الضوء على الاتصالات الحضارية القديمة لمصر.
- تفاصيل مذهلة عن طريقة الدفن ومكانة الرجل الاجتماعية
عُثر على المومياء داخل إناء فخاري كبير في قبر منحوت بالصخر في موقع "النويرات"، بالقرب من بني حسن بمحافظة المنيا، وتُشير هذه الطريقة في الدفن إلى مكانة اجتماعية مرموقة، إذ لم تكن شائعة في تلك الفترة إلا للأشخاص ذوي النفوذ أو المهارات الخاصة.
وقد تم التبرع بالمومياء في أوائل القرن العشرين إلى معهد الآثار بجامعة ليفربول، ثم نُقلت إلى المتحف العالمي في ليفربول، حيث جرت التحليلات الحديثة عليها.
- تحديات تقنية وتفوق علمي في استخراج الحمض النووي
رغم التدهور الشديد للحمض النووي بفعل المناخ الحار والرطب في مصر، تمكن العلماء من التغلب على هذه العقبة باستخدام تقنية "تسلسل البندقية" (Shotgun Sequencing)، التي تسمح بقراءة الجينوم الكامل من عينات أثرية متدهورة دون إتلافها.
وقد فشلت محاولات سابقة، حتى من قبل العالم سفانتي بابو الحائز على جائزة نوبل، في استخلاص حمض نووي سليم من المومياء، مما يجعل هذا الإنجاز العلمي اختراقا فريدا في مجال علم الجينات الأثرية.
- نتائج وراثية تربط مصر القديمة بغرب آسيا والهلال الخصيب
أظهر التحليل الجيني أن 80% من أصول الرجل تعود إلى شمال أفريقيا القديمة، بينما تعود 20% منها إلى غرب آسيا وبلاد ما بين النهرين، ما يوفر أول دليل جيني ملموس على الروابط البشرية بين مصر القديمة ومناطق مثل العراق، إيران، والأردن، والتي لطالما كانت محط نظريات دون إثبات علمي.
- مواصفات أنثروبولوجية مذهلة: عامل فخار أم نخبوي اجتماعي؟
أظهرت دراسة الهيكل العظمي أن الرجل كان قصير القامة (152 سم)، ذو بشرة داكنة وشعر بني، وعاش حتى سن يتراوح بين 44 و64 عامًا، وهو ما يُعادل عمرا طويلا في تلك الحقبة.
وقد أظهرت عظامه علامات إجهاد جسدي شديد، مثل التهاب المفاصل وهشاشة العظام، ما يشير إلى عمله لسنوات في وظائف جسدية شاقة.
يرجّح الباحثون، من خلال شكل الأسنان والعظام، أنه كان عامل فخار محترفًا، وربما استخدم عجلة الفخار التي ظهرت في مصر تقريبا في نفس الفترة، لكن الطقوس الجنائزية تشير إلى ارتقائه اجتماعيا بفضل مهاراته الفريدة.
- تأكيد علمي من جامعة هارفارد: نتائج منسجمة مع المعطيات الأثرية
أشاد الدكتور يوسف لازاريديس، من جامعة هارفارد، بالدراسة، مشيرًا إلى أن النتائج تتماشى مع التوقعات الأثرية حول التداخل السكاني بين مصر ومناطق شرق المتوسط والهلال الخصيب.
وقد أضافت الباحثة أدلين موريز جاكوبس من جامعة ليفربول جون مورز أن الدمج بين البيانات الجينية والأنثروبولوجية والأثرية سمح بتكوين رؤية كاملة لحياة هذا الفرد، وبيئته، ومجتمعه.
- بداية عصر جديد في دراسة الجينوم المصري القديم
تُعد هذه الدراسة نقلة نوعية في أبحاث الأصول الوراثية لمصر القديمة، إذ كانت معظم الدراسات السابقة تستند إلى مومياوات محنطة من عصور لاحقة، تضرر حمضها النووي بفعل المواد الكيميائية المستخدمة في التحنيط.
أما هذه العينة فتُعد من فترة ما قبل التحنيط، ما يُتيح نقاءً جينيا غير مسبوق، ويأمل العلماء أن يواصلوا هذا النوع من الدراسات على عينات أقدم وأخرى من مناطق متعددة، لملء فراغات التاريخ الجيني والحضاري لمصر القديمة.
- العلماء: "كل جينوم بشري هو قطعة من لغز التاريخ البشري"
اختتم الدكتور لينوس جيرلاند-فلينك من جامعة أبردين بتأكيده أن "كل جينوم بشري هو قطعة فريدة في أحجية التاريخ"، معربا عن أمله في أن تُساعد الدراسات المستقبلية في سد الفجوات المعرفية حول تفاعلات مصر مع حضارات الشرق الأدنى القديم.



