في لعبة الأمم، لا شيء يُترك للصدفة، والتصريحات السياسية، خاصةً تلك الصادرة عن الدوائر الأميركية، ليست عفوية أو نتيجة تضارب داخلي بين مؤسسات صنع القرار، بل جزء لا يتجزأ من عقيدة "الإرباك البنّاء" التي دأبت واشنطن على ممارستها في أكثر المناطق التهابًا: الشرق الأوسط.
في الآونة الأخيرة، تصدّرت المشهد سلسلة من التصريحات المتناقضة الصادرة عن مسؤولين أميركيين، أبرزهم "توماس براك"، مبعوث الإدارة الأميركية للملف السوري، هذا التناقض في الخطاب لم يكن محض تشتّت، بل يعكس بوضوح استراتيجية أميركية مرنة تهدف إلى:
أولا: إرباك الفاعلين المحليين والإقليميين
عندما يقول توماس براك إن "سوريا قد تواجه سيناريو أفغاني أو ليبي، وربما أسوأ"، بينما تُصرح وزارة الخارجية الأميركية بعدم وجود أي مفاوضات مرتقبة بين إسرائيل وسوريا، فإن الهدف هنا ليس الوضوح، بل بثّ الشك والضبابية، هذا الخطاب المزدوج يُعقّد حسابات الأطراف، ويمنعهم من اتخاذ مواقف صلبة أو بناء تحالفات مستقرة.
ثانيا: تضليل الرأي العام وخلط الأوراق
ما بين تهديد ترامب بـ"ضرب المنشآت النووية الإيرانية إذا لزم الأمر" وعدم الرغبة بنزع سلاح المقاومة في لبنان ، وبين حديث وسائل إعلام أميركية كـ"أكسيوس" عن لقاء ثلاثي أميركي-إسرائيلي-سوري، تبدو الصورة الأميركية وكأنها تُنذر بحرب وتفاوض في آنٍ واحد، وهذا التضاد ليس عبثًا، بل مقصود. فواشنطن لطالما استخدمت التضليل المعلوماتي كوسيلة لبناء الهيبة وخلط الحقائق، وتوجيه الرأي العام العالمي نحو أهدافها.
ثالثا: توظيف "توماس براك" كأداة حرب نفسية
المبعوث الأميركي توماس براك لم يأتِ من فراغ، هذا الرجل، بلهجته الغامضة وتصريحاته المتقلبة، أشبه بمرآة تعكس اضطراباً مفتعلاً، تارة يُصرّح بعدم وجود بديل للسلطات السوري الجديدة "قابل للتطبيق"، وتارة يُطلق تحذيرات عن انهيار كارثي على غرار ليبيا، هذه الازدواجية تُسهم في دفع الأطراف السورية إلى الإحباط، وفي الوقت نفسه تمنح النظام الجرعةً من الوهم بأنه ما زال ضرورة دولية.
رابعا: إشارات غامضة لتحريك وكلاء واشنطن
عندما تُطلق واشنطن إشارات متناقضة تجاه الجنوب السوري، فهي لا تستهدف فقط دمشق أو طهران، بل ترسل رسائل ضمنية إلى وكلائها المحليين: "قسد"، وبعض فصائل المعارضة، وحتى "إسرائيل"، الهدف: إبقاؤهم جميعًا في حالة ترقّب واستعداد، دون حسم أو اطمئنان. هذا الحقل المعرفي الغائم هو بيئة مثالية لصياغة تفاهمات تحت الطاولة.
إذا، هل هذه سياسة تضليل ممنهجة؟
الجواب: نعم، وبشكل مدروس. فإدارة ترامب ، مثل سابقيها، تدرك أن الحرب الحديثة لا تُخاض فقط بالدبابات والطائرات، بل أيضا بالكلمات المربكة، والتسريبات المشوشة، والتصريحات المتناقضة التي تُربك العقل الجمعي للمنطقة.
وما يزيد الخطورة أن هذه التصريحات لا تخرج عبثا، بل بتنسيق مع وسائل إعلام ذات طابع "تسريبي" والتي تُضفي على الرسائل طابعا شبه رسمي دون التزام دبلوماسي.
خاتمة: من التصريحات إلى الخرائط
في ظل هذا الكم الهائل من التضليل، على القوى المحلية ألا تقرأ التصريحات كما تُقال، بل كما تُراد، فالخريطة الجديدة لسوريا ولبنان والشرق الأوسط عموماَ تُرسم في الكواليس، لا في المؤتمرات الصحفية. وما يُقال أمام الكاميرات هو في الغالب غطاء لحراكٍ خفيٍّ لا يعرف السكون.
الولايات المتحدة تمارس سياسة العصا والجزرة، لكن العصا هذه المرة مغلّفة بتصريحات دبلوماسية، والجزرة أحيانا وهمٌ يُباع على هيئة وعدٍ أميركي لا يتحقق.