كتب الأستاذ حليم خاتون:
المئة عام الأخيرة من الحروب المباشرة وغير المباشرة في منطقتنا كانت متلاحقة وبالتقسيط؛ بدأها الغرب بإسقاط وتقاسم دولة السلطنة العثمانية التي كان معظم العالم العربي وبالأخص بلاد الشام والعراق جزءا مهما فيها...
بعد أن ثبّت الغرب الأوروبي أقدامه في هذا المشرق عبر اتفاقية سايكس بيكو التي مهدت لتنفيذ المرحلة الأولى من السيطرة على ثروات هذا الشرق؛ أقامت عبر تنفيذ وعد بلفور دولة سرطانية في قلب هذه المنطقة لحراسة النهب الممنهج لهذه الثروات، ومنع أي تقدم أو نمو أو تطور قد يؤدي إلى أكثر من وجود كيانات وظيفية تخدم المصالح الغربية... (رغم الوهم الذي تحاول الدوائر التابعة للغرب الأميركي الجديد نشره عن الرفاهية الآتية على نسق دبي والتي لا يمكن أن يصبح واقعا بسبب الثقل الديموغرافي العربي الذي يجب دائما تفتيته بافتعال صراعات مذهبية ومناطقية يقودها أناس مثل الجولاني أو البغدادي أو الزرقاوي أو عبدالله عزام الذي دعا الى الجهاد في افغانستان والبوسنة رغم اصوله الفلسطينية الاردنية... ربما يخلقون غدا جيش معاوية أو جيش المسيح، أو جيش ذو الفقار أو جيش الموحدين الخ من النسخ الجاهزة دائما في أرشيف المخابرات الغربية)، الغباء العربي صار سمة لافتة منذ أن دخل على دولة الخلافة العباسية كل أجناس المماليك الذين حولوا الخلافة الى أُلعوبة سلطة تنمو على كتف الدين بعد تركّيب قرون الشيطان فوقه...
هكذا أصبحت كل فلسطين التاريخية مركزا مهما من مراكز هذه السيطرة الاستعمارية الأوروبية، وأصبحت بقية الدول الناتجة عن سايكس بيكو مجرد دول هامشية...
في كل مرة، حاولت أية دولة من هذه الدول تخطي الحدود الوظيفية، كانت اسرائيل لها بالمرصاد، وفي أكثر من حالة تدخلت المنظومة الغربية مباشرة كما حصل في العدوان الثلاثي على مصر؛ كما حصل في غزو العراق، وكما حصل ويحصل منذ السابع من أكتوبر...
تصريحات الأميركيين بانتهاء صلاحية سايكس بيكو من جهة، والحديث منذ نهاية الألفية الثانية عن بناء شرق أوسط جديد من جهة ثانية، ترافق مع تصريحات دونالد ترامب حول ضيق مساحة خارطة إسرائيل ووجوب العمل على توسيعها...
بدا ترامب هذا التوسيع عبر الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة يهودية، ثم كرس اجتياز حدود فلسطين التاريخية عبر الاعتراف بضم الجولان السوري الى هذه الدولة بشكل نهائي...
كل هذا ينبيء بأننا دخلنا فعلا في المرحلة الثانية لإقامة إسرائيل الكبرى التي تمتد من الفرات إلى النيل...
لقد بدأت حرب إسرائيل الكبرى وقد تستمر مئة عام بالتقسيط لكي يظل اغبياء العرب من كل المناطق والطوائف يخدمونها عن قصد او عن غير قصد...
دخلنا مرحلة الغباء العربي الأقصى...
قد يبدو هذا الهدف خياليا للكثيرين؛ خاصة للحمير والبغال المتواجدين في السلطة والاحزاب المؤيدة للغرب في سوريا والعراق ولبنان ومصر والأردن والسعودية؛ وقد بات من الضروري عدم الاختباء وراء الإصبع وتسمية أزلام هذا المشروع بالمباشر:
هؤلاء هم حكام السعودية والإمارات خاصة، والخليج بشكل عام...
هناك السلطات الجديدة الحاكمة اليوم في سوريا بشكل مطلق ومتفرق؛ يساعدها تركي أحمق يعرف المشروع لكنه يطمع أن تكون له حصة في الشرق الأوسط الجديد...
هناك السلطات الحاكمة في مصر والأردن والعراق ولبنان التي تعي المشروع وتتوهم أن باستطاعتها النفاذ منه عبر الخضوع الكامل لمشيئة الرب الأميركي الجالس في القاعة البيضاوية من البيت الأبيض...
خلال مئة عام تحررت شعوب كثيرة، وهُزمت أميركا أكثر من مرة...
وحدهم العرب، بإستثناء الجزائر، لم يعرفوا طريقا لهزيمة هذا الإستعمار، وإن عاد الجزائريون والتحقوا بقافلة الغباء العربي بعد وفاة آخر عمالقة هذه الأمة، هواري بو مِديَن...
توفرت الفرصة أكثر من مرة سواء عبر الثورات داخل الكيانات المستحدثة، او عبر سيطرة أحزاب قومية على السلطة، ثم عبر انتفاضة الشعب الفلسطيني أكثر من مرة إلى أن وصل الأمر إلى نشوء المقاومة الإسلامية في لبنان بالتزامن تقريبا مع نجاح الثورة الإسلامية في إيران وإقامة جمهورية إسلامية هناك...
السؤال الذي يفرض نفسه هو:
لماذا فشلت الحركة القومية التي كان جمال عبد الناصر أكثر قادتها إخلاصا لحلم إقامة دولة وطنية قومية عادلة وقوية قياسا إلى حزب البعث بشقيه السوري والعراقي حيث لم يتأخر حافظ الأسد في سوريا عن المشاركة بتدمير العراق عبر الدخول في التحالف الدولي لتحرير الكويت؛ بينما تسبب غباء صدام حسين في العراق بالتدمير الذاتي عبر حرب بالوكالة عن الامبريالية ضد الجمهورية الإسلامية الناشئة في إيران قبل ارتكاب الحماقة الثانية في غزو الكويت الذي فتح الباب واسعا لسيطرة أميركا المطلقة على كامل الجزيرة العربية بالإضافة إلى العراق نفسه...
لماذا فشلت المقاومة الفلسطينية التي تحولت عبئا على الشعب الفلسطيني بدل أن تكون رافعة للحرب الشعبية لتحرير فلسطين...
وفي النهاية لماذا فشل الإسلام السياسي بشقيه السُنّي الذي باع نفسه للشيطان وتحالف مع الإمبريالية ضمن وهم تسلم السلطة المطلقة في العالم الإسلامي (جماعة الإخوان المسلمين في مصر وسوريا وفلسطين..)؛ أو الشق الشيعي الذي وصلت قدراته إلى مستوى عال جدا قبل أن ينتكس عندما راهن على إمكانية قبوله شريكا على طاولة السلطة في الشرق الاوسط الجديد بدل ان يكون ضحية تقاسم فوق هذه الطاولة ...
إذا استثنينا البعثيين في سوريا والعراق اللذين مثلا قمة إنتهازية البرجوازية الصغيرة، والغرق في الحروب الداخلية وحتى التعاون في أكثر من مناسبة مع أعداء الأمة، نجد أن السبب الذي أدى إلى مأساة حزيران ٦٧ مع جمال عبد الناصر، ومأساة أيلول ٢٠٢٤ مع السيد حسن نصرالله يكمن تحديدا في تفويت الفرص...
ارتكب جمال عبد الناصر أخطاء مميتة حين وثق بالسوفيات رغم وجود لوبي صهيوني قوي كان تغلغل داخل الحزب الشيوعي السوفياتي، وصدق الأميركيين والغرب بعدم البدء بالحرب سنة ٦٧، إضافة إلى إبقاء صديقه المميت عبد الحكيم عامر على رأس قيادة الجيش لاسباب سياسية وتنظيمية وبعيدا عن المهنية العسكرية، خاصة بعد الأخطاء في زمن الوحدة مع سوريا...
خطأ عبد الناصر عاد وكرره السيد حسن نصرالله الذي كان بيده قدرة معتبرة على الردع ولكنه لم يفعل، سواء عن قناعة شخصية بإمكانية تحقيق نصر جزئي دون حرب وربما وهم تجنيب لبنان وبيروت الدمار، أو بضغط إيراني لا يزال الى اليوم ينتظر ويتلقى الضربات على نفس الأمل رغم ظهور كل العلامات التي تقول ان الإمبريالية قد دخلت في مرحلة التوحش المطلق دفاعا عن مصالحها الأنانية القائمة على الهيمنة المطلقة على الجميع بما في ذلك اقرب الحلفاء والأتباع (أوروبا، كندا الخ)...
رغم كل الخرق الأمني داخل حزب الله، يبقى السبب الأساسي لمأساة أيلول هو في عدم اتخاذ قرار ضرب تل أبيب منذ اليوم الأول لاستهداف الضاحية الجنوبية مما ادى الى وضع زمام المبادرة في يد اسرائيل فتمكنت من تحقيق إنجازات عسكرية بعد خداع اعتمد أساسا على غباء قيادة المقاومة في لبنان وإيران معا...
لقد أدرك السيد نصرالله نفسه هذا الخطأ ووصل غضبه من تلكؤ إيران أن رفض الاجتماع بعباس عراقتشي قبل يومين من اغتياله تحت مسميات أمنية رغم نفي حزب الله لهذا وعودته الى الوقوف في الصف خلف إيران دون مناقشة...
هذا الخطأ هو نفسه الذي وقعت فيه القيادة الإيرانية وكادت تتعرض لنكسة مميتة في ١٣ حزيران الماضي لولا لطف الله...
لكن السؤال الملح الذي يطرح نفسه اليوم هو هل تعلّم حزب الله من هذه الأخطاء...
لا نزال نسمع الشيخ نعيم يخرج ويبرر ويحاول إقناع الناس بما يعرفه كل الناس عن أميركا وإسرائيل...
هو يعرف أميركا جيدا...
والناس تعرف أميركا جيدا...
المطلوب ليس شرح موقف أميركا وتبرير ما لا يمكن تبريره مما ارتكب من اخطاء أثناء الحرب طيلة سنتين تقريبا...
نحن نعرف خبث إسرائيل، ونعرف خبث أميركا...
لسنا نحن من خُدع...
الناس لم تُخدع...
المقاومون لم يُخدعوا...
قيادة المقاومة هي التي تعرضت للخديعة، وعليها هي معالجة هذه المسألة...
الخرق الأمني مصيبة طبعا، ولا يمكن التقليل من شأنه...
لكن المصيبة الأعظم كمنت في السذاجة والبساطة في التعامل مع عدو تكررون ليلا نهارا أنه مخادع وغدار...
الغريب في الأمر انكم تعرفون ولا تتوقفون عن الحديث عن مخطط أميركا وإسرائيل، ثم تخرجون لاقناع الناس بإمكانية التفاهم مع الأميركيين...
هل هناك سذاجة أكثر غباء من هذا؟
هل استطاعت المقاومة إنقاذ لبنان من الخراب عبر عدم استعمال قوة الردع؟
هل أنقذنا بيروت فعلا؟
هل تضمن المقاومة أن لا يعطي ترامب لإسرائيل غدا الضوء الأخضر لتدمير بيروت والمطار وكل البنى التحتية والتقدم حتى الأولي وربما حتى بيروت؟
لماذا يصر الأميركيون على تسليم السلاح؟
لأنهم يريدون ببساطة تنفيذ
مخططهم الجهنمي بعد نزع حتى أسنان المقاومين لكي لا نستطيع الرد وأذية إسرائيل...
تقود أميركا اليوم حربا نفسية تتلازم مع الضربات الإسرائيلية...
تهدف أميركا إلى زرع القلق وعدم اليقين في بيئة المقاومة عبر الحديث الذي لا يتوقف عن تسليم السلاح وتمرير اخبار عن ميل المقاومة إلى تقليص ترسانتها وفقا لوكالة رويترز...
قد يبدو الأمر بسيطا، لكن عدم الحزم في المقاومة يسمح لهذا القلق أن يتسبب بإحباط كبير تعمل أميركا على نشره في بيئة المقاومة...
نحن هُزمنا سواء اعترفنا بهذا أم لم نعترف...
مجرد قبولنا الإنسحاب من الجنوب بالصيغة التي حاول الشيخ نعيم قاسم تبريرها في سنوية الشهيد فؤاد شكر يحمل بذور هزيمة تسببنا نحن بها...
مشكلتنا هي اننا نضع القرارات دوما في يد من ليس مستعدا للذهاب الى الخيارات الصفرية...
بدل جورج حبش او الدكتور وديع حداد، سلمنا قيادة المقاومة الفلسطينية إلى نصف إخونجي، نصف مقاوم هو أبو عمار الذي لا يعرف اليمين من اليسار ويريد دوما الجلوس في الوسط ولو كان ذلك على خازوق، وقد فعل ذلك، واجلس معه كل الشعب الفلسطيني على خوازيق كان آخرها، أوسلو...
نحن نعيش في نظام عالمي تسيطر عليه أميركا...
يشبه هذا النظام بيتا من زجاج...
كأننا بأميركا تحافظ على عالم من البورسلان، ونحن بدل أن نرميه بالحجارة لينكسر نحرص عليه بشيء من الغباء الذي لا يوصف خوفا من غضب أميركا...
هذا ما تفعله الصين والى حد ما روسيا ومعها إيران...
هؤلاء يفتشون عن المحافظة على النظام العالمي طمعا بإيجاد مكان لهم فيه...
أما نحن...
فلا أمل لنا بهذا طالما نحن على هذا الضعف وقلة الحيلة...
إذا كان الصينيون يملكون بعض الأمل وربما الروس ايضا وإن كان بنسبة أقل بكثير،
فإن إيران محكومة بالإعدام بسبب نظام الجمهورية الإسلامية...
أما نحن، فمصيرنا أسود داخل هذا النظام بنسبة تزيد على ٩٠%...
لماذا نحافظ عليه إذا؟
لماذا نحافظ على المصالح الأميركية عبر عدم التعرض للإمارات او السعودية او غيرها من انظمة العمالة؟
لماذا لم نقصف تل أبيب الا بعد أن حُشرنا في زاوية وكاد يتم القضاء علينا؟
المشكلة هي ان بيت الإمبريالية من زجاج وترامب مجنون ولكنه لا يخاف...
لماذا؟
لأننا أغبياء، ولا نقذف عليه الحجارة...