الساعة تمشي على جمر. في غرفةٍ بلا نوافذ، ينعقد الليل حول طاولةٍ من الخشب البارد، وخرائط معلّقة كجلودٍ يابسة على الجدران. يتبادل المفاوضون أفعالًا حذرة، يحركون الفواصل كأنهم يزحزحون صخورًا من طريقٍ ضيّق. كلمة “وقف” تتعثّر بجوار “إطلاق”، و“ممرّات إنسانية” تبحث عن موطئ قدمٍ في سطرٍ مزدحمٍ بالاعتراضات والحاشية. أحدهم يقيس برودة الماء في كوبه ليعرف حرارة العالم خارجه، وآخر يساوم على عشر دقائق صمت مقابل شاحنة خبز. وبين نبرةٍ تخفت وأخرى تعلو، يمرّ شبح غزة في العيون المطفأة: أمّ تشدّ على حنجرتها كي لا تصرخ من الجوع، طفلٌ يعدّ أنفاس أبيه في عتمة الممرّ الطبي، رجلٌ يقف في طابور خبزٍ لا آخر له، ثم يعود إلى بيتٍ لا سقف له. على الطاولة، يتقدّم نصّ الاتفاق مثل جنديٍ يزحف تحت أسلاكٍ شائكة: “وقف إطلاق النار… إدخال المساعدات فورًا… ضمانات… مراقبة… آليات…” وتظلّ كلمة “فورًا” ترتجف كطفلٍ مبلّل في الريح. يطرق رئيس الجلسة بقبضته ذات مرّة، فتتساقط من السقف ذبذبات كهرباءٍ متعبة. يقول صوتٌ مبحوح: “الوقت عدّو الجميع.” ويجيب آخر: “لكنه حليف من يوقّع.” توقّع الأقلام، ويمرّ الحبر على الورق كأنه نهرٌ أخير، بينما على بُعدِ قذيفة، يبلع الليلُ صرخاتٍ لا تصل إلى هذه الغرفة. تسأل ورقةٌ متعبة: هل تكفي التواقيع لإطعام الجوعى؟ ويهمس الهواء: الجوع لا يقرأ، لكنه يسمع وقع الخطوات.
في البحر، تتقدّم السفن كصفٍّ من القلوب على صدر العاصفة. الأمواج عالية، جدرانٌ زرقاء تعلو ثم تهوي، تفتح فمها لابتلاع الحديد والبشر. على سطح القارب الأول، يثبّت شابٌ شاله كي لا يطير مع الريح ويصرخ باسم مدينةٍ لم يرها إلا في الأخبار، وفي عينيه مرفأٌ لا ينطفئ. في القارب الثاني طبيبةٌ تُحصي ما تبقّى من ضمادات وتلفّها بعنايةٍ على زجاجة ماءٍ ترتجف كجسد. والقبطان، يدُه على البوصلة، واليد الأخرى على الدعاء، ينظر إلى خطٍّ رفيعٍ في الأفق كأنه شريان نجاة. فوقهم سماءٌ تُشرِحها طائرات العدوّ: ضجيج معدنيّ، هدير يجرّ وراءه تهديدًا معلّقًا في الهواء. تلقي السماء بمكبراتٍ تحذيراتٍ باردة، فتردّ السفنُ برفّةِ راياتٍ دافئة. الضوء الكاشف يمشط الماء، وتظلّ السفن ماضيةً كأنها تضع أقدامها على جمرٍ يعرف طريقه إلى المطر. كل موجةٍ سؤال: هل تصلون؟ وكل صمتٍ جواب: لا خيار إلا الوصول.
بين صرخة محرّكٍ تُختنق بالماء، وصدى الرعد، تتوالى الأخبار إلى أجهزة اللاسلكي: “قد تمّ الاتفاق على وقف إطلاق النار… إدخال المساعدات…” الكلمات تصل مبتلّة، ناقصة الحروف، لكنها حين تُمسك بها الأيدي على السطح تصير دافئة للحظة. يسأل أحد المتطوّعين: “إن كان الباب قد فُتح، فلماذا لا تزال السماء بهذا السواد؟” ويجيبه البحر بصفعةٍ جديدة: “الطريق إلى الباب لا يزال طريقًا.” في الأحياء البعيدة القريبة، شعب غزة تحت النار ويواجه المجاعة: ثلاجاتٌ خاوية تتذكّر طعم الحليب، أفرانٌ مطفأة تنفث رماد الأمس، موائد من خشبٍ عارٍ تنتظر رغيفًا يمرّ. هنا أمّ تغلي ماءً لتخدع معدة طفلٍ لا تُخدع، وهناك شيخٌ يوزّع ما تبقّى من تمرٍ كأنه يوزّع عمره. وبين بيتٍ انهار وبيتٍ تماسك رغم الشقوق، يضبط الناس ساعاتهم على مؤشرين: دويّ بعيد، وخبرٍ أقرب من الرجاء.
تقترب السفن. تتداخل رائحة الملح بزفرة الوقود، وترتفع عند المقدّمة صلاةٌ قصيرةٌ لا تحتاج إلى ترجمة. الطائرات تمرّ مرّةً أخرى، تخطّ على الماء ظلًّا طويلاً كحدّ السكين، وتترك وراءها بردًا في الأكتاف لا يزول. القبطان يرفع منظاره: الشاطئ هناك، مدينةٌ تقف على أطرافها لِتَرى. الليل يتراجع قليلًا، كأن أحدًا في غرفة المفاوضات أزاح الستارة. تتراكض إشارات اللاسلكي: نقاط تفتيش، مسارات آمنة، قوارب مرافقة… وكلّ كلمة “آمنة” تُقال على استحياء. فوق السطح، يفتح المتطوّعون صناديق الطحين كمن يفتح نافذة، يلامسون أكياس الدواء كما لو أنها وجوه أحبّةٍ يعودون. الأمواج لا تهدأ، لكنها تتعلّم شيئًا من الإصرار، والطائرات لا تختفي، لكنها تتردّد لحظةً أمام صفٍّ صغيرٍ من البشر قرّر أن يعبر.
هل يصل أسطول الصمود إلى غزة وقد تمّ الاتفاق على وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات؟ في غرفةٍ يتهجّون السلام كحرفٍ صعب، وفي بحرٍ يتهجّون الوصول كصلاةٍ مستعجلة، الجواب يتكوّن من لحم الوقت: إن وصلوا بعد التوقيع بساعة، كان الوصول حياةً مسروقة من فم الجوع. وإن وصلوا قبله بلحظة، صار التوقيع أثرًا لاحقًا لسواعدٍ دفعت عاليًا ضد الموج. الوصول ليس يومًا في التقويم، بل نبضًا يسبق الكلمة. وحين ترسو أول سفينةٍ على الماء الضحل، ويُفتح كيسُ دقيقٍ على باب بيتٍ يضيء من الداخل، وحين تُسمَع ضحكةٌ صغيرة تقطع طريقها في هواءٍ تعلّم الصمت طويلًا، سنعرف أنّ الأسطول كان يعبر بنا جميعًا: من عجز العالم إلى قدرته، من جوعٍ معلنٍ إلى لقمةٍ تستردّ اسمها. عندها فقط، ستتوقّف الساعة عن المشي على الجمر، وتمشي على الأرض، ولو خطوةً واحدة، نحو صباحٍ يُؤكل فيه الخبز بلا خوف.