كتب محمد الأيوبي:
مقالات
كتب محمد الأيوبي: "طوفان الاعترافات يربك "إسـرائيل": هل بدأ الغرب الرسمي بمراجعة نفسه"؟
محمد الأيوبي
1 تشرين الأول 2025 , 20:46 م

في لحظة تاريخية، شهد العالم طوفانًا من الاعترافات الغربية بدولة فلسطين، مع تصدر بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال المشهد، وفي اليوم التالي، أعلنت فرنسا مع 10 دول أخرى اعترافها رسميًا بدولة فلسـ.ـطين، وسط ضغوط شعبية متصاعدة وديناميكيات دولية متغيرة. على نحو غير مسبوق، باتت الاعترافات تتوالى ليس فقط كإجراء رمزي، بل كإشارة إلى تحوّل محتمل في وعي الغرب الرسمي، الذي لم يعد قادرًا على تجاهل إرهاصات الرأي العام العالمي، خصوصًا أمام الإبادة المستمرة في غزّة ومشاريع الضم والتطهير الديمغرافي في الضفّة الغربية.

إن هذا الطوفان من الاعترافات يربك "إســرائيـل" ويضعها أمام لحظة حقيقة: دولة طالما اعتبرت نفسها محاصرة، باتت الآن تواجه سيناريوهات جديدة حيث يتحول الرأي العام العالمي إلى أداة ضغط أشد من أي أسـ..ـلحة تقليدية، وأشد من أي غـ..ـارات جوية أو عــ..ــمـليات عسـ.ـكر ية، لأنه يمس صلب المشروع الصهـــيونـ.ـي ويعيد تعريف صورة "إســـ.ـرائيـل" كمحــتل دائم، لا ككيان محاصر. في هذا السياق، لم يعد بالإمكان التعامل مع الاعترافات الأوروبية كأوراق مناورات سياسية، بل كإشارات لمراجعة الغرب الرسمي نفسه.

علم فلسطين ممنوع في البلديات ومسموح في الإليزيه: ازدواجية الاعتراف الفرنسي

الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية، الذي أعلن عنه في مقر الأمم المتحدة، يكشف عن ازدواجية في السياسة الفرنسية. ففي الوقت الذي ستعلن فيه باريس دعمها الرسمي لفلسـ.ـطين، تم توجيه أوامر إلى المحافظين بمنع رفع العلم الفلسـ.ـطيني في البلديات، باعتباره "اعتـ.ـداء على حياد الخدمة العامة". هذا التناقض يعكس موقفًا مزدوجًا: الاعتراف السياسي الرسمي من أعلى مستويات الدولة، مقابل محاولات لتقييد تأثير هذا الاعتراف على الشارع والمجتمع المدني.

إن هذه الازدواجية الفرنسية ليست مجرد مسألة رمزية؛ بل تكشف عن إستراتيجية غربية تقليدية: الاعتراف بالدولة الفلسـ.ـطينية يُقدم كحل دبلوماسي، في حين تظل أدوات الضغط الواقعية على "إســـ.ـرائيـل" محدودة، أو مشروطة بمصالح اقتصادية وأمنية وسياسية. هذا التعاطي يسلط الضوء على الفجوة بين الشعارات الدبلوماسية والواقع العملي، ويبرز أن الاعتراف وحده لا يكفي لوقف جــ..ـرائم الاحـ.ـتلال والإبادة الجماعية المستمرة.

الاعتراف بالدولة الفلسطينية بلا عقوبات ولا معنى

على الرغم من القيمة الرمزية الهائلة لهذه الاعترافات، فإنها بلا عقوبات عـ.ــمليـ.ـة تبقى حبرًا على ورق. فإن "إســـ.ـرائيـل" تستمر في حـ..ـــرب الإبادة على غزّة ومشاريع التوسع الاستيطاني في الضفّة الغربية، بينما يظل المجتمع الدولي عاجزًا عن فرض أي ضغط فعال. في هذا السياق، تطرح خطوة الاعتراف تساؤلًا جوهريًا: هل يمكن للاعتراف وحده أن يوقف آلة العنف "الإســـ.ـرائيـلية"؟ الإجابة العـ.ــمليـ.ـة تبدو واضحة: لا.

ما لم تُقترن الاعترافات الغربية بإجراءات عقابية -مثل تجميد مبيعات الأ سلحة، ووقف التعاون العسـ.ـكر ي والتكنولوجي، وفرض عقوبات اقتصادية- فإنها لن تحقق أي أثر ملموس على الأرض. ومن هنا يظهر المفهوم المركزي للتحليل: الاعتراف السياسي يجب أن يتحول إلى رافعة قانونية وحقوقية، ليس كهدية معنوية للشعب الفلسـ.ـطيني فحسب، بل كأداة ضغط على "إســـ.ـرائيـل" لإجبارها على الالتزام بالقانون الدولي ووقف الانتـ..ـهاكات.

كما أن الاعترافات الدولية المتتالية تحمل قيودًا جوهرية، أبرزها غياب تحديد واضح للحدود وفقًا لإعلان الاستقلال الفلسـ.ـطيني عام 1988، وما يشمل الأراضي المحـ.ـتلة عام 1967. هذه الغموضات تجعل من الدولة الفلسـ.ـطينية مشروعًا ناقص السيادة والجغرافيا، معرضًا لمزيد من التهجير والاستيطان، وهو ما يقلل من فرص قيام دولة قابلة للحياة. ومع ذلك، فإن الاعترافات تقدم للفلسـ.ـطينيين أدوات قانونية ودبلوماسية جديدة على المستوى الدولي، لكنّها لن تُترجم إلى واقع ملموس إلا إذا رافقتها خطوات عـ.ــمليـ.ـة، كما ذكرنا سابقًا في هذه الفقرة.

"إســـ.ـرائيـل" أمام لحظة الحقيقة: حين يتحول الرأي العام العالمي إلى سـلـاح أشد من الطا ئرات

تواجه "إســـ.ـرائيـل" اليوم واقعًا جديدًا: تصاعد عزلة الــكـ..ـيان "الإســـ.ـرائيـلي" على المستويات السياسية، الاقتصادية، الرياضية والثقافية. الاحتجاجات في الملاعب الأوروبية، ومقاطعة الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، إضافة إلى حراك موسيقي وفني عالمي ضدّ "إســـ.ـرائيـل"، يشكّل نموذجًا لكيفية تحول الرأي العام العالمي إلى سـلـاح سياسي فعال. لقد بدأت صورة "إســـ.ـرائيـل" المثالية - كما كانت تُسوق عبر الإعلام الرسمي والدبلوماسي- تتفكك، ليحل محلها الوعي الجماهيري الدولي بجــ..ـرائم الإبادة والتطهير العرقي.

في هذا السياق، لم تعد الطا ئرات والغـ..ـارات والتهـ..ـديدات العسـ.ـكر ية وحدها كافية لفرض السيطرة أو التأثير على الرأي العام، بل أصبح الرأي العام العالمي أداة إستراتيجيّة، تضغط على الحكومات الغربية لإعادة النظر في سياساتها، وفرض نوع من المساءلة على "إســـ.ـرائيـل". وهذه الديناميكية الجديدة قد تفتح أبوابًا لدفع "إســـ.ـرائيـل" إلى تعديل سلوكها، وإن بصورة جزئية، تحت وطأة التغيير في المزاج الشعبي الدولي.

طوفــ..ـان الاعترافات الغربية: انعكاسات إستراتيجية

يمكن تلخيص أبرز انعكاسات الاعترافات الغربية المتسارعة في أربعة محاور:

1. كسر الإجماع الغربي التقليدي: هذه الاعترافات تكسر الإجماع "الأميركي - الإســـ.ـرائيـلي" الذي دام عقودًا، وتضع ضغطًا على واشنطن لمراجعة إستراتيجياتها التقليدية في المنطقة، خصوصًا أمام فشل سياسات ترامب السابقة في فرض حل للصراع.

2. إعادة تعريف "إســـ.ـرائيـل" كمحـ.ـتل دائم: الاعترافات تحول صورة "إســـ.ـرائيـل" من كيان "محاصر" إلى "كيان احـ.ـتلال"، مما يضع المشروع الصهـــيونـ.ـي أمام اختبار دولي جديد، ويجعل استمرار الاحـ.ـتلال والمجـ*ـزرة أكثر تكلفة دبلوماسيًا وسياسيًا.

3. تحفيز الرأي العام العالمي: لم تعد الاعترافات مجرد قرارات حكومية، بل امتدت لتشمل الضغوط الشعبية العالمية، التي بدأت تؤثر على الشركات، الرياضة، والثقافة، فتشكّل ضغطًا مستمرًا على الحكومات الغربية لتغيير سياساتها تجاه "إســـ.ـرائيـل".

4. فرصة فلسـ.ـطينية للتوحد والمراجعة الداخلية: الاعترافات تشكّل محفزًا للفلسـ.ـطينيين لمراجعة إستراتيجياتهم الوطنية، وتوحيد الصفوف في مـ..ـواجهة التحديات الخارجية، بدل الاقتصار على المراهنة على الدعم الدولي وحده.

ما الذي يفرض على الغرب الرسمي مراجعة نفسه؟

يطرح السؤال الأكثر أهمية: هل التغيير في الموقف الغربي سببه ضغوط الرأي العام العالمي، أم هو تحول إستراتيجي في الإدارات الأوروبية الغربية؟ التحليل يشير إلى أن هناك علاقة تكاملية بين الاثنين. أولًا، الضغوط الشعبية المستمرة، سواء من خلال الاحتجاجات، الحملات الإعلامية، أو المقاطعة الدولية، أجبرت الدول على اتّخاذ خطوات رسمية لتصحيح صورتها أمام مواطنيها. ثانيًا، هناك مصالح سياسية ودبلوماسية أوسع، حيث لا يمكن للحكومات الغربية تجاهل فجوة الشرعية التي بدأت تنبثق على المستوى الدولي، خصوصًا مع توسع الاعترافات بدولة فلسـ.ـطين إلى أكثر من 150 دولة عضو في الأمم المتحدة.

بعبارة أخرى، ما يحدث هو مشهد مزدوج: ضغوط الشعب تُحدث الفعل، والسياسات الرسمية تحاول اللحاق بها، في حين تبقى أدوات الضغط الفعلية على "إســـ.ـرائيـل" - من عقوبات وحــ.ــصـ..ـار ومقاطعة شاملة - محدودة أو ناقصة. هذا المزيج يعكس أزمة ثقة حقيقية بين الشعوب والحكومات الغربية، ويعطي فلسـ.ـطين موقعًا فريدًا في قلب الصراعات الجيوسياسية المستقبلية.

خطوة أولى في اتّجاه صحيح، لكنّها تحتاج إلى فعل

طوفــ..ـان الاعترافات بالدولة الفلسـ.ـطينية يمثل لحظة تاريخية، لكنّها لحظة مشوبة بالتحفظ والواقعية. على الرغم من القيمة الرمزية، فإن تأثيرها الفعلي مرتبط بالقدرة على تحويل هذه الاعترافات إلى أدوات ضغط قانونية وسياسية على "إســـ.ـرائيـل". في الوقت نفسه، فإن الرأي العام العالمي أثبت أنه يمكن أن يكون أكثر فاعلية من أي غـ..ـارات جوية أو تهـ..ـديدات عسـ.ـكر ية، وأن تحول المزاج الدولي إلى دعم فلسـ.ـطين يفرض على أنظمة الدول الغربية مراجعة سياساتها.

ورغم كلّ القيود، لا يمكن إنكار أن هذه اللحظة توفر فرصة نادرة للفلسـ.ـطينيين. فالفضل الأساسي يعود لصمود غزّة على مدار عامين في مـ..ـواجهة حـ..ـــرب إبادة مستمرة، وللمـ..ـقاومة التي أبقت القضية حية على المستوى المحلي والدولي. هذه القوّة الميدانية والسياسية الفلسـ.ـطينية هي التي تجعل الرأي العام العالمي يتحرك، وهي ما يخلق الشرط الأساسي لنجاح أي تحرك دبلوماسي رسمي. فالاعتراف الدولي هو جزء من هذا الإطار، لكنّه لن يكون نافذًا إلا إذا تبنى الفلسـ.ـطينيون إستراتيجية وطنية متماسكة، تبدأ أولًا بالوحدة الداخلية، وترتكز على حقوق الشعب والأرض والسيادة، وليس على رغبات الدول المانحة أو دفتر الشروط "الإســـ.ـرائيـلي".

في نهاية المطاف، تبقى فلسـ.ـطين في قلب المعادلة، ليس فقط كدولة معترف بها، بل كشعب صامد في غزّة والضفّة، قادر على تحويل هذه الفرصة الرمزية إلى تحرك فعلي يفرض على المجتمع الدولي مسؤولياته القانونية والسياسية. الطوفــ..ـان لم ينته بعد، وفرصة التغيير لا تزال قائمة، لكنّ مفتاحها الأساسي يظل مرتبطًا بالضغط الشعبي، الوحدة الوطنية الفلسـ.ـطينية، واستثمار هذه اللحظة الرمزية لتحويلها إلى واقع ملموس على الأرض.ت