ابتكار السماعة الذكية لتشخيص أمراض القلب بدقة متناهية
علوم و تكنولوجيا
ابتكار السماعة الذكية لتشخيص أمراض القلب بدقة متناهية
17 تشرين الأول 2025 , 16:23 م

كانت السماعة الطبية منذ أكثر من 200 عام رمزا للأطباء ومساعدهم الأول في تشخيص الأمراض، ورغم التطورات الهائلة في تقنيات التصوير والفحوصات الرقمية، لا تزال هذه الأداة البسيطة والمبتكرة تُستخدم على نطاق واسع في العيادات والمستشفيات.

تعمل السماعة الطبية على تضخيم الأصوات الداخلية الصادرة عن الجسم، مثل نبضات القلب وحركة الرئتين، لتساعد الأطباء في الكشف عن مؤشرات مبكرة للأمراض. ومع ذلك، تظهر بعض العلامات الصوتية للأمراض — خصوصا أمراض القلب — في مراحل متأخرة، مما يجعل العلاج أقل فاعلية.

ولهذا، يتجه العلماء اليوم إلى دمج الذكاء الاصطناعي بالسماعات الطبية، لجعلها قادرة على "سماع" ما لا يمكن للأذن البشرية إدراكه.

كيف وُلدت السماعة الطبية؟

وبحسب موقع The Conversation يُعزى اختراع السماعة إلى الطبيب الفرنسي رينيه لينِك (René Laënnec) في أوائل القرن التاسع عشر.

حيث جاءت فتاة صغيرة تُظهر أعراض مرض قلبي إلى عيادته، لكن وضع أذنه مباشرة على صدرها كان غير لائق اجتماعيا آنذاك، فقام بلف ورقة على شكل أنبوب ليستمع من خلالها إلى دقات قلبها، فلاحظ وضوح الصوت بشكل غير مسبوق، ومن هنا وُلدت الفكرة.

على مدى العقود التالية، أُدخلت تحسينات عديدة على التصميم لزيادة الراحة وجودة الصوت، منها إضافة غشاء رقيق (diaphragm) يُضخّم الاهتزازات الصوتية.

وفي خمسينيات القرن التاسع عشر، قدّم الطبيبان آرثر ليرد وجورج كامن ابتكارا جديدا: السماعة الثنائية (binaural stethoscope) التي تنقل الصوت إلى كلتا الأذنين، مما حسّن وضوح النغمة ودقّة التمييز بين الأصوات الداخلية.

الجدير بالذكر أن تصميم تلك النماذج المبكرة لا يختلف كثيرا عن السماعات الحديثة المستخدمة اليوم.

فنّ الإصغاء إلى القلب

يُدرَّس في كليات الطب حتى اليوم فنّ الاستماع الطبي (Auscultation)، وهو مهارة تعتمد على تحليل الأصوات الصادرة عن القلب والرئتين والأعضاء الداخلية الأخرى.

عند الاستماع إلى القلب، يركّز الأطباء على الإيقاع المألوف "لوب – دوب":

الصوت الأول (لوب): يحدث عند انغلاق الصمامات بين الأذينين والبطينين أثناء انقباض القلب لضخ الدم.

الصوت الثاني (دوب): ينتج عن انغلاق الصمامات الخارجية عند استرخاء القلب وامتلائه بالدم مجددا.

لكن الأطباء أيضا يستمعون إلى أصوات غير طبيعية مثل الخشخشة، النبضات الإضافية، أو النقرات، والتي قد تشير إلى خلل في تدفق الدم أو عمل الصمامات القلبية.

تحديات التشخيص القائم على الإستماع

تختلف الأصوات القلبية باختلاف نوع المرض، وأحيانا تُصدر أمراض مختلفة الأصوات نفسها، مما يجعل التشخيص اليدوي معقدا.

فعلى سبيل المثال، النفخة الانقباضية (systolic murmur) قد تدل على تضيق في الصمام الأبهري أو الرئوي، لكنها قد تظهر أيضا في قلب سليم تماما، هذه التشابهات تجعل الاعتماد على السماع وحده غير كافٍ لتحديد التشخيص بدقة.

الذكاء الاصطناعي: آذان رقمية تسمع ما لا نسمعه

هنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي (AI) الذي يمكنه تحليل الفروق الدقيقة في الأصوات القلبية — تلك التي لا تستطيع الأذن البشرية تمييزها — للكشف عن الأمراض قبل ظهور الأعراض التقليدية مثل النفخات أو التغيرات البنيوية.

يقوم العلماء بتسجيل أصوات القلب باستخدام سماعات رقمية تحول الصوت إلى إشارات إلكترونية يمكن تخزينها وتحليلها عبر الحاسوب.

ثم تُستخدم هذه البيانات لتدريب خوارزميات الذكاء الاصطناعي على التمييز بين الأصوات الطبيعية وغير الطبيعية، مما يمكّنها من التنبؤ بالأمراض القلبية بدقة عالية.

من البيانات إلى التشخيص الذكي

تُستخدم الخوارزميات الحديثة لتحليل التسجيلات الصوتية الرقمية كمؤشر منخفض التكلفة وغير جراحي للكشف عن أمراض القلب.

غير أن معظم هذه الأنظمة تتعلم من بيانات لمرضى في مراحل متقدمة، مما يحدّ من قدرتها على اكتشاف الحالات المبكرة.

لتجاوز هذا التحدي، يستخدم الباحثون نماذج حيوانية لتدريب الخوارزميات على التعرف إلى التغيرات الصوتية الدقيقة في المراحل الأولى من المرض.

وبعد تدريب النظام، تتم مقارنة نتائجه بصور الأشعة التي تُظهر تراكم الكالسيوم في القلب لقياس الدقة.

تشير نتائج الأبحاث إلى أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي يمكنها تمييز أصوات القلب السليمة بدقة تزيد عن 95%، والتفريق بين أنواع أمراض القلب المختلفة بنسبة تقارب 85%، والأهم من ذلك قدرتها على الكشف المبكر قبل ظهور النفخات القلبية أو التغيرات الهيكلية.

ثورة في تشخيص أمراض القلب

يؤكد العلماء أن تعليم الذكاء الاصطناعي الاستماع لما لا يسمعه الإنسان قد يُحدث نقلة نوعية في كيفية تشخيص أمراض القلب وعلاجها.

فبفضل هذه التقنية، سيتمكن الأطباء من التدخل في مراحل مبكرة، مما يحسّن فرص الشفاء ويقلّل من المضاعفات القلبية الخطيرة.

من ورقة بسيطة لُفّت قبل قرنين من الزمان إلى خوارزمية ذكية تميّز أدقّ النبضات — تطورت السماعة الطبية لتصبح رمزا لتكامل العلم، الهندسة، والذكاء الاصطناعي في خدمة الإنسان.

وبينما يواصل العلماء تطوير أدوات أكثر دقة، يبدو أن مستقبل الطب سيكون مليئا بـ أجهزة ذكية "تسمع" وتفهم ما يعجز البشر عن ملاحظته.

المصدر: The Conversation