حين تتصدّع الجغرافيا تحت نيران الإبادة، ويُحاصَر الوعي بين إعلامٍ مضلِّل ونظامٍ دولي أعمى، تنبعث غزّة، كما في كلّ مرة، لتقول ما لا يستطيع أحد قوله: "إن الوعي أقوى من القوّة، وإن المقــاومة ليست فعلًا عسـ..ـكريًا فحسب، بل عـ..ــمـلـيـة تاريخية لإعادة تعريف الإنسان في وجه الظلم والهيمنة".
لقد كشفت الحـ.ـرب الأخيرة على غزّة أنّ الشعوب لا تُهزم بالحديد والنار، بل تُهزم حين تُقنعها القوّة الغاشمة بأنّها بلا معنى. وما فعلته المقــاومة خلال عامين من الصمود الأسطوري، لم يكن فقط تحدّيًا عسـ..ـكريًا للكيان الصهيـ.ـوني، بل كان تحديًا فلسفيًا للنظام العالمي نفسه، الذي أراد أن يجعل من العدالة ترفًا ومن الحرية استثناءً يُمنَح وفق ميزان المصالح الغربية.
من النصـ.ــر العسـ..ـكري إلى النصـ.ــر السياسي والمعنوي
لم يكن ما حدث في غزّة مجرد مـ..ـواجهة عسـ..ـكرية بين فصيل مقــاوم وجيشٍ مدجج بالتكنولوجيا، بل كان اختبارًا وجوديًا للوعي الإنساني: هل يمكن للضعيف أن ينتصر حين يمتلك المعنى؟
ففي حين حاولت "إسـ..ـرائيل" أن تفرض معادلتها النفعية القائمة على الإبادة لتحقيق الأمن، أعادت المقــاومة تعريف الأمن ذاته: أن يكون الإنسان آمنًا في كرامته، في هويته، في حقه على الأرض.
لقد تحولت غزّة إلى مرآة تعكس زيف مقولة "الردع" الصهيـ.ـونية، إذ خرجت المقــاومة من تحت الركام أكثر تماسكًا، وبقيت هي الطرف الوحيد القادر على فرض شروطه الرمزية والمعنوية على الساحة الفلسـ.ـطينية. فحتّى وإن تراجعت القوّة المادية للمقــاومة مؤقتًا، إلا أنّها حققت نصـ.ــرها في المعنى: نصـ.ــر الإرادة على التقنية، ونصـ.ــر الذاكرة على النسيان.
هنا تحديدًا يمكن الحديث عن "النصـ.ــر الإستراتيجي بالأرقام"، لا من حيث عدد الطا ئرات أو الجنود، بل من حيث الأثر البنيوي في معادلة الردع. فـ"إسـ..ـرائيل" فقدت عنصـ.ــر المفاجأة، وتبدّدت هيبة جيشها الذي وُصف يومًا بأنه "لا يُقهر"، بينما اكتسبت المقــاومة خبرة ميدانية وتنظيمية غير مسبوقة، جعلتها تنتقل من الدفاع إلى القدرة على إدارة الحـ.ـرب الطويلة، ومن العزلة إلى التحول إلى مركز ثقلٍ إقليمي في معادلات الردع والقرار.
الوعي الجمعي الفلسـ.ـطيني من النجاة إلى الفعل
حين فُتحت أبواب الجحيم على غزّة، كان المتوقع أن تنهار البنية الاجتماعية والنفسية للمجتمع الفلسـ.ـطيني، لكن ما حدث كان العكس تمامًا. لقد تجلّى الوعي الجمعي في أبهى صوره: رفضٌ جماعي للتهجير، صمودٌ في المخـيـمات، وتنظيمٌ داخليّ قائم على المساندة الشعبية والعائلية، حتّى داخل الدمار.
هذا الوعي الجديد لم يَعُد يكتفي بالنجاة من القـ..ــصـ.ــف، بل تجاوزها إلى الفعل الإنساني والسياسي الواعي. فالمجتمع الغزّي لم يعد ضحيةً تنتظر الإغاثة، بل بات منتجًا للوعي المقــاوم، يفرض على محيطه العربي والإسـ..ـلا مي، بل وعلى العالم، أن يعيد النظر في مفاهيمه عن "الحق" و"العدالة".
ولذلك، يمكن القول إنّ الحـ.ـرب لم تغيّر فقط موازين القوّة، بل أعادت بناء الذات الفلسـ.ـطينية. أصبح الفلسـ.ـطيني يرى نفسه لا كأداةٍ في معركة الآخرين، بل كفاعلٍ أساسي في صياغة مصير المنطقة. ومن هنا يتجاوز النصـ.ــر حدود السـ..ـلاح، ليصبح انـتــ.ــصــ.ـارًا على الوعي المبرمج الذي أرادت به القوى الاستعمارية طمس معاني المقــاومة منذ أوسلو وحتّى "التطـ..ـبيع".
يقظة الأمة من سبات التطـ..ـبيع
لم تكن الحـ.ـرب حدثًا فلسـ.ـطينيًا فحسب، بل لحظة كشفٍ حضاري للأمة جمعاء. فقد تهاوت شعارات "السلام" الرسمي أمام مشاهد الأطـ.ـفال تحت الركام، وانكشف الوجه الحقيقي للمنظومة الغربية التي تحتكر الحديث عن "حقوق الإنسان" بينما تبرر كلّ قنبلة تُلقى على المدنيين في غزّة.
لقد أيقظت غزّة الضمير الجمعي العربي والإسـ..ـلا مي من سباته الطويل بل حتّى المجتمعات الغربية. فالملايين التي خرجت في العواصم الأوروبية لم تكن فقط تعبّر عن الغضب، بل عن عودة الانتماء. أصبح الوعي الشعبي يتجاوز الخطوط التي رسمتها الأنظمة والسياسات، ليعيد تعريف الأمة كمجالٍ أخلاقيٍ مشترك يتجاوز حدود الدول.
هذه اليقظة لا تعني فقط تضامنًا إنسانيًا، بل تعني أيضًا تحوّلًا بنيويًا في إدراك موقع الأمة من العالم. فالحـ.ـرب على غزّة، بما حملته من وضوحٍ أخلاقي حاد، جعلت الشعوب تدرك أن الصراع مع المشروع الصهيـ.ـوني ليس صراع حدود، بل صراع وجودٍ وهويّة. ومن هنا، انتقل الخطاب العربي من "التسوية الممكنة" إلى "الكرامة الممكنة".
سقوط الخطاب الغربي وولادة خطاب الحرية الجديد
الحدث الغزّي عرّى الغرب الرسمي، وكشف تناقضاته البنيوية. فبينما يرفع راية الديمقراطية، سكت عن المجـ.ـازر، بل وشارك في تسلـ ـيح القاتل وتمويله. هذه الازدواجية فجّرت وعيًا نقديًا واسعًا في الجامعات ووسائل الإعلام الغربية نفسها، حيث خرجت أصوات شبابية ومثقفون يعلنون أن "الضمير الإنساني لا يمكن أن يُحتكر باسم القيم الليبرالية".
هكذا، ولدت من تحت أنقاض غزّة حركة عالمية جديدة للوعي، لا تقف عند حدود التضامن، بل تعيد طرح الأسئلة الجوهرية حول بنية النظام الدولي. فمنذ الحـ.ـرب، باتت فلسـ.ـطين رمزًا لما نسميه "انقلاب المعنى": حين تتحول الضحية إلى مركز لإنتاج القيم.
النخبة ودور الوعي في تشكيل المستقبل
تضع الحـ.ـرب على غزّة النخب الفكرية والثقافية أمام مسؤوليات كبرى. لم يعد كافيًا الاكتفاء بالتحليل أو الشجب، بل المطلوب إعادة بناء المفاهيم التي تحكم علاقة الأمة بذاتها والعالم.
لقد قدّمت المقــاومة نموذجًا عمليًا للحرية، لكنّ تحويل هذا النموذج إلى مشروعٍ حضاريٍّ دائم، يتطلب إنتاجًا معرفيًا متماسكًا يربط بين السياسة والثقافة، وبين التاريخ والمستقبل.
إنّ المعركة المقبلة لن تُخاض في الميدان فقط، بل في العقل واللغة والمناهج. فالصراع على فلسـ.ـطين أصبح صراعًا على الرواية: من يروي التاريخ ومن يُمحى من صفحاته.
ولذلك، فإن دور النخبة اليوم هو تحويل تجربة غزّة من حدثٍ استثنائي إلى وعيٍ تاريخي متجذر، يُعيد تعريف العلاقة بين المقــاومة والهوية، وبين الكرامة والسياسة.
من غزّة إلى الأمة.. الوعي الذي لا يُقهر
لقد خرجت الأمة من حـ..ــرب غزّة مختلفة عمّا كانت عليه قبلها. لم يعد السؤال "من ينتصر؟" بل "من يملك حقّ المعنى؟". والمقــاومة، بهذا المعنى، لم تنتصر فقط على "إسـ..ـرائيل"، بل على منطق التاريخ الذي أراد الغرب كتابته باسم المنتصر الدائم.
لقد أعادت الحـ.ـرب تعريف "الوعي الغربي والعربي" كقوةٍ فاعلة، لا ككتلة من الغضب العابر. فكلّ طفلٍ في غزّة أصبح رمزًا للإنسان الحر، وكلّ أمٍّ فقدت أبناءها أصبحت شاهدة على أن الحرية تُولد من رحم الألم. هذا الوعي الجديد لا يمكن اغتياله لا بالقـ..ــصـ.ــف ولا بالتطـ..ـبيع، لأنه تحوّل من فكرة إلى ضميرٍ جمعي.
من الركام يولد التاريخ
في النهاية، يمكن القول إنّ الحـ.ـرب على غزّة لم تكن مجرد فصل جديد من الصراع "الفلسـ.ـطيني-الإسـ..ـرائيلي"، بل كانت نقطة انعطافٍ في تاريخ الوعي الإنساني الحديث. لقد أثبتت أن المقــاومة ليست خيارًا عسـ..ـكريًا، بل حقًا وجوديًا لا يُقايض.
ومن بين الركام، وُلدت غزّة من جديد، لا كمدينةٍ محاصرة، بل كفكرةٍ محرّرة. أعادت تعريف النصـ.ــر والكرامة والحرية، وأيقظت الأمة من سباتها الطويل لتدرك أن الطريق إلى النهضة يبدأ من حيث يتوقف الخوف.
فكما نقول دائمًا بعد كلّ حـ..ــرب: "حين تُقـ..ــصـ.ــف المدن، تتكلم الأفكار، وحين يسقط الجسد، ينهض الوعي"، فإن غزّة اليوم، هي نهوض الوعي من تحت الركام، لتعلن أن الإنسان لا يُهزم، ما دام قادرًا على أن يقول "لا" في وجه العالم بأســ.ـــره.