يشهد الطب التجديدي طفرة علمية هادئة لكن عميقة، تقودها أبحاث الخلايا الجذعية المستخرجة من أماكن غير متوقعة، أبرزها لبّ ضرس العقل ، هذا النسيج الذي عادةً يُرمى بعد الخلع، بدأ العلماء يعتبرونه “كنزا بيولوجيًا” قد يحمل في داخله حلولا مستقبلية لأمراضٍ مستعصية مثل الزهايمر وقصور القلب.
ما هي خلايا ضرس العقل الجذعية؟
تحتوي المنطقة الداخلية من الضرس، وتحديدا لبّ السن، على نوع خاص من الخلايا يُعرف علميا باسم الخلايا الجذعية للّب السني (Dental Pulp Stem Cells - DPSCs).
تتميّز هذه الخلايا بقدرتها على الانقسام والتجدد والتمايز إلى أنواع أخرى من الخلايا، مثل الخلايا العصبية وخلايا العضلات القلبية، مما يجعلها مرشحة قوية لاستخدامها في الطب التجديدي.
تشير دراسة منشورة في مجلة Stem Cell Research عام 2023 إلى أن خلايا لبّ الأسنان المستخرجة من أضراس العقل قادرة على النمو السريع في بيئة معملية، ويمكن تحفيزها لتتحول إلى خلايا عصبية أو قلبية حسب الوسط المزروع فيه، مما يجعلها من أكثر الخلايا مرونة في الاستخدام العلاجي.
الأبحاث على الزهايمر: نتائج أولية مشجعة
كشفت جامعة كيوتو اليابانية في دراسة نُشرت بـالمجلة الدولية لعلوم الأعصاب في عام 2022، أن خلايا DPSCs، عندما زُرعت في نماذج فئران مصابة بمرض الزهايمر، ساعدت في تحسين الذاكرة وتقليل تراكم البروتينات المسببة للتلف العصبي.
وبيّن الباحثون أن هذه الخلايا تُفرز بروتينات وعوامل نمو تُعيد تنشيط المسارات العصبية وتحفّز خلايا الدماغ على التجدد.
كما أظهرت تجربة أخرى من جامعة سيول الوطنية عام 2023 أن الوسط الخلوي المستخرج من خلايا ضرس العقل يحتوي على جزيئات إشارات بيولوجية مضادة للأكسدة والالتهابات، مما ساعد في تقليل الالتهاب العصبي في نماذج حيوانية من الزهايمر.
أبحاث القلب: تجديد الأنسجة وتحسين الوظيفة
وفي مجال أمراض القلب، أظهرت دراسة صادرة عن معهد الطب الحيوي في شنغهاي عام 2024 ونُشرت في مجلة Frontiers in Cardiovascular Medicine أن الخلايا الجذعية المستخرجة من أضراس العقل ساعدت على تحسين وظائف القلب في فئران عانت من قصور قلبي بعد احتشاء عضلة القلب.
وأوضحت النتائج أن هذه الخلايا لا تتحول فقط إلى خلايا عضلية، بل تُفرز أيضا عوامل نمو تحفّز تكوين أوعية دموية جديدة وتقلّل من تلف الأنسجة.
أما دراسة جامعة ميلانو الإيطالية بالتعاون مع جامعة كاليفورنيا سان دييغو عام 2023، فقد بينت أن خلايا لبّ الأسنان حسّنت من قدرة القلب على ضخ الدم، وساهمت في ترميم الأنسجة المتليّفة في تجارب مخبرية متقدمة.
أين وصل الطب اليوم؟
رغم النتائج المشجعة، يؤكد العلماء أن هذه التجارب ما تزال في مراحل ما قبل السريرية، أي أجريت على حيوانات ومزارع خلوية فقط.
وبحسب مراجعة صادرة عن جامعة كامبريدج عام 2024، فإن تطبيق هذه التقنية على البشر ما زال يحتاج إلى سنوات من التجارب السريرية لإثبات الفعالية والسلامة.
كما حذّرت المراجعة من أن بعض الشركات بدأت تروّج لخدمات “تخزين خلايا ضرس العقل” كاستثمار طبي مستقبلي، رغم عدم وجود دليل علمي يؤكد فاعليتها الإكلينيكية حتى اليوم.
التحديات الأخلاقية والعلمية
رصد الخبراء أربع عقبات رئيسية أمام تطبيق هذه التقنية على نطاق واسع:
1. الأمان الحيوي: ضرورة التأكد من عدم تحوّل الخلايا المزروعة إلى أورام أو تسببها في التهابات.
2. التكامل الوظيفي: ينبغي أن تندمج الخلايا الجديدة في النسيج المستهدف وتعمل بفعالية.
3. تباين النتائج: تختلف جودة الخلايا حسب عمر المتبرع وصحته وطريقة التخزين.
4. الضبط الأخلاقي: ضرورة محاسبة الجهات التي تبيع أو تروّج “وعودا علاجية” لم تُثبت علميا بعد.
بين الأمل والواقعية
يرى علماء الطب الحيوي أن خلايا ضرس العقل الجذعية تمثل ثورة علمية صامتة في مجال الطب التجديدي.
فهي متجددة وسهلة الاستخراج وغير مثيرة للجدل الأخلاقي، على عكس الخلايا الجنينية.
لكنهم يشددون على أن الحديث عن علاج فعلي لأمراض مثل الزهايمر أو قصور القلب لا يزال سابقا لأوانه.
ويقول البروفيسور تاكيشي ناكاجيما من جامعة طوكيو للعلوم الطبية:
“الخلايا الجذعية المأخوذة من أضراس العقل هي أمل علمي حقيقي، لكنها تحتاج إلى خمس إلى عشر سنوات إضافية من التجارب الدقيقة قبل أن نرى تطبيقها في المستشفيات.”
تخفي أضراس العقل بين أنسجتها ما هو أثمن من المينا والعاج: خلايا جذعية تحمل أسرار الشفاء المحتمل.
ورغم أن الطريق طويل قبل أن تتحول هذه الاكتشافات إلى علاج فعلي، إلا أنها تُمثل خطوة جديدة نحو مستقبلٍ قد تُستبدل فيه الإبر والعقاقير بخلايا من أجسادنا نفسها.
إنها قصة أخرى من قصص العلم التي تُذكرنا بأن الحلول الكبرى تبدأ أحيانا من أماكن لم نتوقعها أبدا مثل ضرسٍ كنا نعتقد أنه بلا فائدة