لم يكن صعودُ صادق خان إلى رئاسةِ بلديّةِ لندن، ولا انتخابُ زهران ممداني عُمدةً لمدينةِ نيويورك، حدثاً عابراً في المشهدِ الغربيّ.
إنّه زلزالٌ سياسيٌّ وثقافيٌّ ضربَ عمقَ الوعيِ الغربيّ الّذي طالما بنى مجده على استبعادِ “الآخر”.
واليوم، يجدُ الغربُ نفسه في مواجهةٍ مباشرةٍ مع أبناءِ مهاجريه، أولئك الّذين صنعوا مُدُنَهُ ورفعوا اقتصادَه، وها هم الآنَ يجلسونَ على مقاعدِ القرارِ فيها.
خان وممداني… وجهانِ لعصرٍ غربيٍّ جديد:
في لندن، يحكمُ المدينةَ ابنُ السائقِ المسلمِ السُّنّيّ الّذي كانت الصحفُ اليمِينيّةُ تصِفُهُ يومًا بـ “الخطرِ القادمِ مِنَ الشرق”.
وفي نيويورك، يترأّسُ العاصمةَ الاقتصاديّةَ للعالمِ، شابٌّ شيعيٌّ من أصولٍ هنديّةٍأفريقيّةٍ،يتحدّثُ بجرأةٍ عن العدالةِ الاجتماعيّة ويدافعُ عن فلسطينَ من قلبِ الولاياتِ المتّحدة.
بين الاثنينِ خطٌّ مشتركٌ: كلاهما وُلدَ خارجَ الأسطورةِ الغربيّةِ التقليديّة، وكلاهما وصلَ إلى موقعٍ كان يُعتبرُ حِكرًا على أبناءِ “النقاءِ الغربيّ”.
صدمةُ ترامب… حين يسقطُ القناعُ.
لم يُخْفِ ترامب امتعاضَه، فهو يدركُ أنّ رمزيّةَ صادق خان وزهران ممداني تتجاوزُ حدودَ المناصب؛ إنّها هزيمةٌ فكريّةٌ وثقافيّةٌ للمشروعِ الّذي رفعه هو نفسُه… مشروعِ “استعادةِ أميركا البيضاء” و“حمايةِ الغربِ من غزوه الثقافيّ”.
لكنّ الغربَ تغيّرَ رَغماً عن ترامب، فاليومَ، من يحكمُ أكبرَ مدينتينِ في العالمِ الغربيّ لا ينتمي إلى الموروثِ الدينيّ أو العِرقيّ الّذي ادّعى ترامب أنّه ضمانةُ الحضارة.
لقد انكسرَ الِاحْتِكارُ، وظهرَ جيلٌ لا يخافُ هُوِيَّتَه،ولايعتذرُ عن أصلِه، ولا يطلبُ إذنًا ليكونَ جزءاً مِنَ القرار.
الغربُ في اختبارِ ذاته...
فما يجري ليس مجرّدَ “تنوُّعٍ سياسيٍّ”، بل انقلابٌ في ميزانِ الهُوِيّة.
الغربُ الّذي بنى تاريخَه على ادّعاءِ “التفوّق” يكتشفُ أنّ قوّتَه الحقيقيّة في تعدُّدِيَّتِه، وأنّ أبناءَ المهاجرين هم من يحمونَ اليومَ صورتَه المتصدّعةَ في الداخلِ والخارج.
غيرَ أنّ هذا التحوّلَ،رغم إيجابيّتِه، يُربِكُ نُخَبَ الغربِ نفسَها، الّتي لم تتصالحْ بعدُ مع فكرةِ أن يُقادَ “العالمُ الغربيّ” بوجوهٍ سمراء، مساجدُها أقربُ إليهم من كاتدرائيّاتهم.
الدرسُ للعرب… من يخافُ أبناءَه لا يبني وطنًا.
حين يتمكّنُ سُنّيٌّ في لندن، وشيعيٌّ في نيويورك، من إدارةِ أعقدِ مدنِ الأرض، يصبحُ السؤالُ موجِعًا…
لماذا ما زال العالمُ العربيّ يرفضُ أبناءَهُ، باسمِ الطائفةِ أو المنطقةِ أو الولاءِ؟
لماذا نُصرُّ على أن نبقى أسرى هواجِسِنا، بينما الآخرُ يتقدّمُ لأنّه تجاوزَها؟
لقد فهمَ الغربُ أنّ الِاختِلافَ مصدرُ قوّة، بينما نحن ما زلنا نحاكمُ بعضَنا على الاسمِ والمذهبِ والانتماءِ.
وهنا يكمنُ الفارقُ بين أُمّةٍ تبني، وأخرى تخافُ من البناءِ،فقط لأنّه قد يُغيّرُ شكلَ الزعيم.
الصدمةُ الّتي يعيشُها ترامب اليوم ليست صدمةَ رجلٍ خسرَ انتخاباتٍ بل صدمةَ منظومةٍ كاملةٍ فَقَدَتْ قُدْرَتَها على الهيمنةِ الفكريّة.
فالغربُ الّذي علّمَ العالمَ دروسًا في الديمقراطيّة، لم يعد يحتملُ نتائجَها حين تأتي بوجوهٍ لا تشبهُه.
لذلك،فإنّ ترامب ليس إلّا التعبيرَ الأوضحَ عن خوفِ الغربِ من صورتِه الجديدة…
صورةٍ فيها مسلمٌ سنّيٌّ يقرّرُ مصيرَ لندن.
ومسلمٌ شيعيٌّ يخطّطُ لمستقبلِ نيويورك.
وفيها الحقيقةُ المرّةُ، أنَّ مَنْ كانوا ضيوفاً صاروا أصحابَ البيت.
و في سابقةٍ لافتةٍ،فاز ايضاً لبنانيّان من الطائفةِ الشيعيّةِ برئاسةِ بلديّتَين في الولاياتِ المتّحدة، هما" مو بيضون وعبدالله حسين حمود" ليؤكِّدا أنّ الكفاءةَ تتقدّمُ على الهُوِيَّة، وأنّ أبناءَ الجنوبِ اللبنانيِّ باتوا جُزءاً من صناعةِ القرارِ في الغرب.
هذا الحدثُ يتجاوزُ البُعْدَ الانتخابيّ، فهو رسالةٌ رمزيّةٌ من المهاجرين اللبنانيّين لوطنهم، حين تُكرَّمُ الكفاءاتُ لا تُسألُ عن مذهبِها،بل عن قدرتِها على البناءِ والإدارة.
إنّه فخرٌ جديدٌ للبنان، الّذي يُثبِتُ أنّ أبناءَه، أينما وُجِدوا، يصنعونَ المجدَ للبلدِ الذي يحلّونَ فيه، باسمِه لا باسمِ انتماءاتِهم.
إنّ التاريخَ لا ينتظرُ الّذي يخافُونَ التغيير،ومن يرفضُونَ أن يروا ملامحَ العالَمِ الجديد، سيُستبْدَلُ به عاجلًا أم آجلًا.
إنَّ الزمنَ لا يحترِمُ المتردّدين، ولا يرحمُ مَنْ يبني أمجادَهُ على إقصاءِ الآخرين..
بالمختصر آمُلُ ألّا يُثِيرَ هذا الفوزُ أيَّ ردودِ فعلٍ تؤدّي إلى أذىً جسديٍّ لأيِّ طرف؛ لا لترامب، ولا لغيرِه من صهاينةِ الغربِ. ولْيَعلَموا أنَّ السياسةَ للمستقبلِ، ولا تُدارُ إلاَّ بِالْحِوارِ الذي هدفه الحقُّ والعدل، وليس بالعنف الذي يقتلُ العقلَ والمنطِق والحق...، والذي لن يدومَ طويلا.