تعيش الساحة العراقية اليوم واحدة من أدقّ مراحلها منذ عام 2003، بعد انتخابات لم تُفرز كتلة حاسمة، لكنها أعادت فتح النقاش حول مستقبل الدولة ومصير التوازن الوطني في ظلّ تصاعد التوتر الإقليمي وتبدّل خرائط النفوذ في المنطقة.
فالعراق يقف في قلب معادلة جيوسياسية معقّدة:
إيران تسعى إلى تثبيت حضورها في العمق العراقي حفاظاً على أمنها القومي ، وتركيا تراقب الشمال بمزيج من الطموح الأمني والمائي، فيما تتابع إسرائيل المشهد بترقّب شديد، باحثة عن ثغرة في جدار الاستقرار العراقي لإستكمال مشروعها بتغيير وجه المنطقة . فكل ارتباك داخلي يُعدّ بالنسبة لها فرصة استراتيجية لإعادة صياغة معادلات المشرق.
تل أبيب تتابع المشهد العراقي كفرصة استراتيجية لا كحدث سياسي عابر .
لكن التحدي الأكبر يبقى داخليا، لا خارجيا، فالانقسامات السياسية، وتراجع الثقة بين القوى الوطنية، وتنامي أدوار غير واضحة هنا وهناك ، تشكّل عوامل تهديد متزايدة لوحدة البلاد. ومع انشغال النخب بخلافات السلطة، يعود شبح “داعش” ليتحرّك في الفراغات الأمنية، مذكّرا الجميع بأن الخطر لا يختفي، بل يتكيّف مع الظروف.
من هنا، فإن اللحظة الراهنة ليست مناسبة لتقاسم النفوذ أو استعراض القوة، بل لبناء تفاهم وطني حقيقي يضع أمن الدولة فوق أي اعتبار. فالعراق لا يحتاج إلى حكومة جديدة فحسب، بل إلى رؤية وطنية قادرة على حماية سيادته وإعادة الاعتبار لمفهوم المواطنة.
إسرائيل تتربص، والإرهاب يترقب، والانقسام الداخلي يلوّح في الأفق. وكلّ تأخير في توحيد الصفوف يعني فتح الباب أمام مرحلة جديدة من عدم الاستقرار. المطلوب اليوم ليس البحث عمّن يحكم، بل كيف يُحكَم العراق بعقلٍ وطنيّ واحد يمنع الانقسام ويحافظ على تماسك الدولة.
إن الحفاظ على وحدة العراق لم يعد خيارا سياسيا، بل ضرورة وجودية. فدولة الرافدين التي واجهت الحروب والحصار والإرهاب، لا يمكن أن تُختزل في نزاع انتخابي أو محاصصة طائفية.
فالتاريخ القريب علّم العراقيين أن الفراغ السياسي يولّد الانقسام، والانقسام يفتح أبواب الخارج.
المطلوب شجاعة القرار الوطني، وإرادة مشتركة تعيد العراق إلى دوره التاريخي كجسر استقرار في منطقة مضطربة.
إن العراق اليوم أمام مفترق حاسم إمّا أن ينهض كدولة موحّدة قوية، أو يسمح للخارج أن يرسم له حدود مستقبله. وفي هذا الامتحان، لا شيء أهمّ من وعي العراقيين بأن وحدتهم هي سلاحهم الأخير .