لم يعد المشهد اللبناني يحتمل المزيد من الإملاءات ولا العبث بمؤسساته. وفي خضمّ هذه الضغوط، جاءت خطوة قائد الجيش اللبناني، العماد رودولف هيكل، بإلغاء زيارته إلى الولايات المتحدة بعد تراجع بعض الجهات الأميركية عن عقد لقاءات كانت مقررة سلفاً، لتشكّل منعطفاً سياسياً وأمنياً بالغ الدلالة. فالقرار لم يكن تقنياً ولا بروتوكولياً، بل رسالة سيادية صريحة انطلقت من موقع المسؤولية الوطنية، وأصابت مباشرة جوهر العلاقة بين مؤسسةالجيش والدول المانحة.
"مؤسسة عسـ..ـكرية تتصدّى للضغوط بثبات"
منذ سنوات، يحاول الجيش اللبناني موازنة علاقة دقيقة مع واشنطن، مستفيداً من الدعم العسـ..ـكري الذي تقدّمه، دون التفريط باستقلالية قراره أو السماح بتحويله إلى منصة ضغط سياسي. وقد أثبتت التجارب أن بقاء الجيش خارج الاستقطابات الخارجية هو شرط أساس لاستمراره كضامن وحيد للاستقرار الداخلي.
في هذا السياق، يظهر موقف العماد هيكل بوضوح تام . فهو رفض أن يتعامل مع المؤسسة العسـ..ـكرية اللبنانية كجهاز قابل للإخضاع أو كطرف يُقاس حضوره بمدى امتثاله للرغبات الخارجية.
إن تمسك العماد هيكل بمبدأ الاحترام المتبادل، في علاقات الجيش، بدلاً من الاستنسابية أو التوجيه المسبق، يعيد الاعتبار إلى مبدأ سيادةالقرار الوطني الذي لايتقنه إلا القادة الذين يفهمون معنى الكرامة العسـ..ـكرية.
"الولايات المتحدة… دعمٌ مشروط أم ضغط سياسي"؟
لا يمكن في أي قراءة سياسية إغفال المشهد الأوسع: فواشنطن لطالما تعاملت مع الجيش اللبناني باعتباره حاجة إستراتيجية لها في المنطقة، لكنها كثيراً ما حاولت أن تربط دعمها، بشروط أو بمقاربات لا تتناسب مع طبيعة الوضع اللبناني.
وفي لحظة إلغاء لقاءات رسمية كانت مقررة سلفاً، بدا كأن هناك محاولة لاختبار مدى قابلية الجيش للامتثال أوالتراجع؛إلا أنّ ردّالعمادهيكل جاء سريعاً وحاسماً:
إذا كان الغرض من اللقاءات هو فرض مقاربات لا تراعي مصلحة لبنان، فلا ضرورة لها. وإذا كان التعاون سيجري تحت سقف الانتقائية والانتظار، فالأجدر الحفاظ على كرامة المؤسسة من أن تُستهان.
حين يصبحُ بعضُ الداخلِ أبواقاً للخارج، لا يمكنُ فصلُ ما جرى عن ظاهرةٍ خطيرةٍ تحدّث عنها فخامةُ رئيسِ الجمهوريةِ اللبنانية، وهي ظاهرةُ بعضِ المسؤولين والسياسيين الذين يسافرون إلى الولايات المتحدة، لا لتقديمِ رُؤيةٍ وطنيةِ مُوَحّدة، بل لـِ“بَخِّ السُّمِّ” والتحريضِ ضدَّ مؤسساتِ دولتِهم، وعلى رأسها الجيشُ اللبناني. هؤلاء، من مواقِعِهمُ السياسية، يسعون إلى دفعِ الخارجِ لِاتِّخاذِ مواقفَ ضاغطةٍ على الجيش، ظنّاً منهم أنّ إضعافَهُ يخدمُ مشاريعَهُمُ الضيقة.
هذه الممارسات – التي وصفها الرئيس، بأنها دسائسُ تُطبَخُ في الغرفِ المغلقة – تؤدّي عملياً إلى خلقِ انطباعاتٍ مغلوطةٍ لدى بعضِ دوائرِ القرارِ في واشنطن، وإلى تغذيةِ مُقارباتٍ لا تخدمُ لبنان.
لذلك، يأتي موقفُ العماد هيكل لِيُعيدَ ضبطَ المعادلة:
الجيشُ ليسَ أداةً في أيدي المُتَخاصِمِينَ في الداخل، ولا مادةً سهلةً لِلتَّلاعُبِ في الخارج. إنَّه مؤسسةٌ فوق الصراعات، ولا يمكنُ لِأيِّ جهةٍ أنْ تُوَظِّفَهُ أو تستخدِمَهُ لِتصفيةِ حساباتٍ سياسية.
"قائدُجيش يكتبُ رسالةً سياديةً، دون أن ينطقَ بكلمة".
ما فعلهُ العماد رودولف هيكل هو كتابةُ رسالةٍ سياسيةٍ واضحة، بوسيلةٍ لا تقلُّ وُضوحاً: "القرار".
فالقراراتُ، في عالمِ السياسة، أبلغُ منَ الخطابات. وقرارُهُ بإلغاءِ الزيارةِ بالكامل، رغمَ أهميتِها العسـ..ـكريةِ والدبلوماسية، أظهرَ أنَّهُ لا يقيسُ المواقفَ بالمكاسِبِ الآنِيّة، بل بمدى محافظتِها على كرامةِ الجيشِ ومَوْقِعِه.
هذه الخطوةُ تعكسُ شخصيةَ قائدٍ يُفَضِّلُ خسارةَ موعدٍ على خسارةِ كرامة، ويضعُ المبادئَ فوقَ الحِسابات، ويُدرِكُ أنَّ هيبةَ الجيشِ ليستْ تفصيلاً، وأنَّ استقلالِيَّتَهُ ليستْ بَنداً تفاوضياً.
"أثر القرار داخلياً وخارجياً" .
داخلياً، أعادَ القرارُ تعزيزَ ثقةِ اللبنانيينَ بِمؤسَّستِهِم العسـ..ـكرية، في وقتٍ تتعرَّضُ الدولةُ لِانْهِياراتٍ متعددةِ المستويات .
لقد شعر المواطنُ بأنَّ الجيشَ لا يزالُ صامداً، وأنَّ قائدَهُ لا يُساوِمُ على دَوْرِه.
أمّا خارجياً، فالقرارُ يَفْرُضُ إعادةَ تقييمٍ لدى الأطرافِ الدوليةِ المَعنِيَّةِ بِالمِلَفِّ اللبناني.
فمَنْ يُريدُ علاقةً جِدِّيَّةٍ مَعَ هذا الجيش، عليهِ أنْ يَفْهَمَ أنَّهُ ليسَ فقط مؤسسةً تُمَوَّل، بل هو مؤسسةٌ ذاتُ كرامةٍ وطنيةٍ لا تُمَسّ.
"خاتمة":
حين تتحوّلُ المواقفُ إلى خطوطِ دِفاعٍ؛ حيثُ المؤسسةُ العسـ..ـكريةُ اللبنانيةُ، بقــيـادةِ العماد رودولف هيكل، تُثبِتُ أنَّ السيادةَ ليستْ شِعاراً يُرفَعُ في المُناسبات، بل مُمارسةٌ تتجلّى في القراراتِ الصعبة.
وفي زمنٍ يتسابقُ فيهِ الكثيرونَ إلى كَسْبِ رِضا الخارجِ، على حسابِ الداخل، يَبْرُزُ قائدُالجيشِ ليقول:
إنَّ في لبنانَ رجالاً ما زالوايعرفون أن يقولوا:" لا"وكيف يقولون، “لا”، عندما يحقُّ لِلوَطنِ أن يقولَها.
هذا الموقفُ لن يُنسى. فهو ليسَ حَدَثاً عابراً، بل فصلٌ جديدٌ في معركةٍ طويلةٍ لحمايةِ استقلالِ القرارِ اللُّبنانيِّ، وحِفْظِ كرامةِ المؤسسةِ العســكرية التي تبقى - شاء البعضُ أم أبى - آخرَ ما يَربطُ اللبنانيينَ بِوَطَنِهِم.