الصراع على مستقبل شرق الفرات
مقالات
الصراع على مستقبل شرق الفرات
وائل المولى
22 تشرين الثاني 2025 , 05:43 ص

‏تتخذ الاشتباكات التي تشهدها مناطق شرق الفرات بين قوات سوريا الديمقراطية والسلطات الجديدة في دمشق منحًى يتجاوز حدود الاحتكاك العسكري التقليدي، لتكشف عن صراع جوهري على مستقبل هذه المنطقة بوصفها إحدى أكثر الساحات حساسية في سوريا ما بعد سقوط نظام الأسد. فالمشهد لم يعد محكوماً بالمعادلات القديمة، بل بات مسرحاً تتقاطع فيه مشاريع دولية وإقليمية، ويُختبر عبره شكل سوريا الجديدة وحدود أدوار الفاعلين فيها.

‏في قلب هذا التوتر تقف قسد، التي ترى نفسها شريكاً أساسياً في الحرب على الإرهاب وركناً لا يمكن القفز فوقه في معادلة شرق الفرات. وفي المقابل، تعمل السلطة الجديدة في دمشق على إعادة تثبيت وحدة الأرض السورية بمنهج براغماتي أكثر واقعية، لكنها تصطدم بإرث من الانقسام والولاءات المتداخلة التي رسختها سنوات الحرب. وهنا تتولد المعضلة المركزية كيف يمكن دمج مشروع سياسي جديد تسعى دمشق لترسيخه مع بنية سياسية – عسكرية صلبة نسجتها قسد بدعم أميركي مباشر لسنوات طويلة؟

‏في هذا السياق جاء اتفاق 10 آذار كمحاولة لفتح نافذة تهدئة تُجنب الطرفين الانزلاق نحو مواجهة واسعة. وقد هدف الاتفاق إلى وضع قواعد مؤقتة لإدارة الأمن والمعابر وآليات التنسيق الميداني. غير أن الاتفاق سرعان ما تعثر تحت ضغط الخلافات الجوهرية حول الصلاحيات الإدارية، وطبيعة الوجود العسكري، وحدود النفوذ الخارجي في شرقي البلاد. حاول الوسيط الأميركي توم براك إحياء المسار عبر مقترحات ضمان وتفاهمات تدريجية، لكن وساطاته بقيت أسيرة تشدد داخلي ورهانات إقليمية متناقضة، ما أدى إلى تعليق الاتفاق ضمن مساحة رمادية بين الرغبة السياسية والعجز العملي عن التنفيذ.

‏الولايات المتحدة، الحاضر الأثقل في شرق الفرات، تتعامل مع الاشتباكات باعتبارها جزءاً من ميزان ضغط ضروري للحفاظ على نفوذها في الجزيرة السورية. فهي لا تدفع نحو الانفجار، لكنها لا تسمح بالتهدئة الكاملة أيضاً، بما يضمن لها القدرة على موازنة صعود دمشق الجديد ومنع أي تموضع استراتيجي يميل أكثر نحو موسكو أو بكين. أما تركيا، فترى في أي تقارب محتمل بين قسد ودمشق تهديداً استراتيجياً لمصالحها، إذ قد يمنح الإدارة الذاتية غطاءً سياسياً يصعّب على أنقرة تقليص نفوذها. ولذلك تتعامل تركيا مع التوترات الحالية كفرصة لإعادة ترسيخ حضورها العسكري والسياسي شمالاً في ظل الظروف التي ولدتها مرحلة ما بعد الأسد.

‏وبعد خروج إيران من سوريا، أعادت إسرائيل حساباتها في شرق الفرات باعتباره ساحة خلفية يجب ضبطها أمنياً ومنع تحوّل أي قوة محلية إلى لاعب يتجاوز الرقابة الأميركية. أما السعودية، التي تعود تدريجياً إلى الساحة السورية ضمن رؤية إقليمية أوسع، فتراقب التوترات من زاوية تثبيت الاستقرار ومنع تجدد الفوضى، شرط القطع مع أي نفوذ إيراني قد يعود عبر بوابات التفكك الأمني.

‏ووسط هذه الحسابات المتداخلة، تجد السلطة الجديدة في دمشق نفسها أمام تحدٍّ دقيق استعادة السيطرة دون الانجرار إلى صدام شامل، ودون السماح للقوى الخارجية بإعادة تقطيع الشرق ورسم خطوط نفوذ جديدة، فيما تواجه قسد سؤالاً وجودياً يتصل بمستقبلها في مرحلة لم تعد فيها المعادلات السابقة قابلة للاستمرار، ولا الضمانات الأميركية ثابتة إلى المدى الذي تتوقعه.

‏بهذا المعنى، يتحول شرق الفرات إلى مختبر لمرحلة سوريا المقبلة مرحلة إعادة بناء الدولة من جهة، وسعي القوى المحلية والإقليمية والدولية لتثبيت مكاسبها أو حماية مناطق نفوذها من جهة أخرى. ولا تبدو نهاية هذا الصراع وشيكة، إذ يمهد لكل مرحلة جديدة من إعادة رسم الجغرافيا السياسية وتوازنات القوة، وهي توازنات قد تحدد ملامح سوريا والمنطقة لسنوات طويلة قادمة.