أبو شباب والمشروع الصهيوني: هندسة الخيانة والاختراق داخل المجتمع الفلسطيني
مقالات
أبو شباب والمشروع الصهيوني: هندسة الخيانة والاختراق داخل المجتمع الفلسطيني
د. هناء سعادة
8 كانون الأول 2025 , 10:20 ص

بقلم: د. هناء سعادة

الجزائر- لا يخوض الكيان الصهيوني حربه على الفلسطينيين بالسلاح فحسب، بل عبر معارك أكثر تعقيداً وأقل ضجيجاً، تستهدف العمق الاجتماعي قبل الجغرافيا، وتراهن على اختراق النسيج الوطني بأدوات محلّية وأجسام وسيطة، يجري إنتاجها وتغذيتها تمهيداً لتحويلها إلى رافعة أمنية بديلة عن الاحتلال المباشر. ولأجل ذلك، انخرطت الأجهزة الاستخباراتية الصهيونية، على مدى سنوات طويلة، في إنشاء شبكات تجنيد سرية، تشمل عشرات الحالات سنوياً، تُدار بمنهجية دقيقة تعتمد على الرصد والابتزاز، واستثمار الحاجة الاقتصادية، وتوظيف الانقسام السياسي لتسهيل عملية الاختراق.

وتتعامل الصهيونية مع العميل المحلي باعتباره استثماراً طويل الأجل، وليس مجرد عنصر جمع معلومات. ولذلك، لا تتوقف استراتيجيتها عند حدود تجنيد الأفراد، بل تمتد إلى بناء بنى شبه منظّمة، يمكن أن تتحوّل لاحقاً إلى سلطة ظلّ تعمل كوكيل داخلي، يحكم المجتمع بالأمر الواقع، ويعيد إنتاج وصاية الاحتلال في سياق محلي. تجلّى هذا النموذج بوضوح في حالة ياسر أبو شباب، الذي لم يكن مجرد فرد مجند، بل واجهة لمشروع أمني يهدف إلى تأسيس بنية مسلّحة مرتبطة بالعدو، تتحرك خارج الإجماع الوطني، وتعمل وفق حسابات لا علاقة لها بمصالح المجتمع، ولا بتوازناته الداخلية، وقد رُوّج له وميليشياته بوصفهم "قوة محلية"، بينما كانت وظيفتهم الواقعية ضمان تدفق المعلومات وإعادة تشكيل المجال الأمني، بما يتوافق مع هندسة صهيونية تستفيد من الفوضى والانقسام.

وتُظهر المعطيات المتوفرة من قطاع غزة والضفة الغربية أن عملية التجنيد لا تجري في فراغ، بل في سياق حرب مركّبة، تستهدف البنى الاقتصادية، والروابط الأسرية، والمجتمع المدني، وتعمل على تفكيك مصادر المناعة الأخلاقية والقيمية. ولذلك، يشكّل الفقر والبطالة وأزمات الحياة اليومية بيئة اختبار مثالية لتجريب أدوات الاختراق، وغالباً ما تقترن عملية التجنيد بآليات قسرية، عبر استدعاء الأشخاص على المعابر، أو ابتزازهم بملفات شخصية، أو تهديدهم بحرمانهم من العمل والتنقل والعلاج، وهي وسائل تجعل العميل أسير شبكة تحكم، لا يستطيع الفكاك منها مهما حاول.

تفاصيل عملياتية عن أبو شباب وميليشياته

تشير المصادر إلى أن أبو شباب ومجموعاته كانوا محور مشروع صهيوني متكامل، يهدف إلى إنتاج جهاز أمني بديل، يتحكم بالمجتمع من الداخل، ويستغل الفجوات الاجتماعية، ويخلق حالة من الاعتماد على الوكيل. وقد ضم المشروع تدريبات سرية على جمع المعلومات، وخرائط التحرك، ووسائل الاتصال المشفر، وطرق تجنيد عناصر جديدة، وتوجيه السلوك الجمعي، والتحكم في المؤسسات الصغيرة التي يمكن أن تتحول إلى أدوات للسيطرة السياسية والأمنية. كان الهدف أن تتوسع الشبكة لتصبح قادرة على ملء أي فراغ أمني أو سياسي في حال انهيار الوضع الداخلي، وأن تفرض سلطة الظل بشكل تدريجي، دون مواجهة مباشرة.

واستخدمت الشبكة أساليب متعددة، تشمل الابتزاز المادي والمعنوي، واستغلال الحاجة الاقتصادية، واستمالة النفوس الباحثة عن النفوذ أو الحماية، وقد تم استقطاب أعضاء جدد عبر أوهام القوة والحصانة والقدرة على التأثير على القرارات المحلية، بينما كانت الوظيفة الحقيقية ضمان نفوذ الاحتلال، وإضعاف التماسك الوطني، وتحويل الفضاء المدني إلى مجال قابل للتحكم.

استجابة المقاومة الفلسطينية

في مواجهة هذا النمط من الحرب، طوّرت المقاومة الفلسطينية مقاربة مضادة، تقوم على ثلاث مستويات: الردع الأمني، والتفكيك الاجتماعي، وإعادة بناء الثقة الشعبية. فمن الناحية الأمنية، أنشأت المقاومة أجهزة رصد، قادرة على تتبّع آليات التجنيد، واكتشاف الاختراقات قبل تحولها إلى بنى حقيقية، عبر العمل الاستباقي، وتفكيك الشبكات، ومحاكمة المتورطين باعتبارهم تهديداً للأمن الجماعي، لا مخالفين للقانون. أما اجتماعياً، فقد أدركت القوى المقاومة أن تحصين المجتمع لا يتم بالخطاب الأخلاقي وحده، بل بتعزيز البنية التضامنية، التي تجعل الخيانة خياراً مكلفاً لا مغرياً، وتقدم للناس بديلاً عن السقوط في الفراغ الاقتصادي والنفسي.

وقد أثبتت تجارب السنوات الأخيرة، خصوصاً خلال الحروب المتعاقبة على غزة، أن المجتمع الفلسطيني يتمتع بقدرة استثنائية على امتصاص الصدمات الناتجة عن محاولات الاختراق، وتحويلها إلى عامل يقظة سياسية، بدلاً من أن تكون مدخلاً إلى الانهيار. ففي أكثر من حالة، أدت محاكمات علنية أو عمليات تصفية لعناصر تجسس، إلى تثبيت قناعة عامة بأن الخيانة ليست ظاهرة فردية معزولة، بل جزء من مشروع يهدف إلى اقتلاع قدرة الفلسطيني على صياغة مستقبله، ومصادرة حقه في أن يكون سيد قراره، ليُدفع إلى الهامش، كجسد بلا روح، وأرض بلا سيادة، وشعب يُدار بالوصاية بدل أن يصنع قدره بيديه.

وبهذا المعنى، تبدو المعركة مع الكيان الصهيوني أبعد ما تكون عن مواجهة بين جيشين. إنها معركة على رواية الوطن، على تعريف الانتماء، وعلى قدرة مجتمع محاصر على مواجهة عدو لا يكتفي بإسقاط البيوت، بل يسعى إلى إسقاط المعنى. ومن هنا تكتسب المقاومة الفلسطينية – بكل ما تواجهه من ضغوط أخلاقية وسياسية – دوراً يتجاوز القتال العسكري، لتصبح حارساً للمعايير التي تحمي المجتمع من التفكك، وتؤكد أن معركة التحرر لا تُخاض بالسلاح وحده، بل بالقدرة على الدفاع عن الذات ضد السقوط في هندسة الخيانة.