بين لبنان والمشروع الأمريكيّ
مقالات
بين لبنان والمشروع الأمريكيّ
محمد علي بردى
8 كانون الأول 2025 , 21:58 م

لطالما كانت سرديّة خصوم المقاومة في لبنان أنّ حزب الله يسعى لإقامة نظام إسلاميّ في البلد وفرض نمط حياة دينيّ على اللّبنانيّين، وأنّه هو الذي يُخلّ بالوحدة الوطنيّة ويهدّد استقرار لبنان. والمثير للسّخرية هو أنّ هؤلاء أنفسهم كانوا وما زالوا يطالبون بالتّبعيّة لأمريكا.. التي تريد الخير للجميع كما هو واضح لمن يعرف تاريخها وحاضرها..!

بل من يراجع خطابات رؤساء أمريكا السّابقين ويتابع السّياسة الخارجيّة الأمريكيّة في الماضي والحاضر يجد عدّة أفكار مترابطة يمكن من خلالها استظهار حقيقة المشروع الأمريكيّ:

▪︎ الفكرة الأُولى أنّ الولايات المتّحدة هي وطن اختاره الله كما يُستفاد من ادّعاء الرّئيس السّابق أبراهام لينكولن بأنّ أمريكا هي "الأمل الأفضل والأخير للأرض"..

▪︎ الفكرة الثّانية هي الاعتقاد بأنّ للولايات المتّحدة "مهمّة" أو "تكليف" يدفعها للعمل على تغيير العالم. وقد أكّد الرّئيس السّابق ريتشارد نيكسون في عام ١٩٦٠ على هذا المعتقد بقوله: "لم تظهر أمريكا منذ ١٨٠ عاماً من أجل أن تمنح نفسها الحُرِّيَّة وحسب، بل من أجل حمل الحُرِّيَّة إلى العالم بأسره". وقال الرّئيس السّابق جورج بوش (الإبن) في عام ٢٠٠٤ أنّ أمريكا "بوصفها أعظم قوّة على وجه الأرض، مُلزَمة أن تساهم في نشر الحُرِّيَّة [..] هذا ما دُعينا إليه"..

▪︎ الفكرة الثّالثة أنّ أمريكا تمثّل قوى الخير في مواجهة قوى الشَّرِّ أثناء تنفيذها لهذه المهمّة..

ويلزم من ذلك أنّ كلّ ما يحلّ بسائر البلدان والشّعوب من خراب وكوارث وسفك دماء وفساد وفوضى، فهو ليس مبرَّراً وحسب، بل هو أقيس بلحاظ ما تمثّله أمريكا ممّا تقدّم. هذا ما صرّحت به وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة السّابقة مادلين أولبرايت حيث قالت: "إذا احتجنا إلى استخدام القوّة فسبب ذلك أنّنا أمريكا: الوطن الذي لا غنى عنه"..

ولا يخفى أنّ في عمق هذا المشروع هناك جوهر دينيّ؛ لا بمعنى أنّه لأهداف إيمانيّة حقّا، ولكن بمعنى أنّ أمريكا تستفيد في مشاريع الهيمنة من العقائد والمفاهيم الموجودة في المنظومة الفكريّة المسيحيّة. رأى مؤسّسو الولايات المتّحدة أنّ تنصير السُّكَّان الأصليّين (الهنود) هو جزء من مسار تحريرهم من "الهمجيّة" التي كانوا يعيشونها. وكان الرّبط بين نشر الدّيانة المسيحيّة بين الشّعوب ومبدأ "الحضاريّة" واضحاً للغاية في سياسات وخطابات الرّؤساء والسّياسيّين الأمريكيّين. فقد قُدّمت الأراضي لحركات التّبشير دعماً لجهودهم في "جعل الهنود حضاريّين ونشر المسيحيّة" في زمن رئاسة توماس جفرسون، وقد صرّح الرّئيس يوليسيس غرانت بعد ذلك بتأييده لتلك السّياسات قائلاً: "سأفضّل أيّ مسار تجاههم يميل إلى حضارتهم وتنصيرهم ومواطنتهم النّهائيّة"..

وتكفي هذه الأمثلة والاقتباسات لإظهار تجذُّر نزعة الاستثنائيّة في ثقافتهم السّياسيّة، حيث يحتكرون مفاهيم التَّحضُّر والحُرِّيَّة والمواطنة من أجل تبرير سياسات الهيمنة واستخدام القوّة، ولا يتوانون عن ذكر التّنصير كجزء من هذه السّياسات بحيث إمّا أن تخضع الشّعوب للامبرياليّة المسيحيّة أو تستعدّ للقتل والتّهجير، ويكون ذلك نتيجة طبيعيّة لتمرُّدهم على إرادة الله الذي عيّن الأمريكيّين أوصياء على الخلق، وسخّر لهم من القوّة المادِّيَّة ما يصحّ استخدامه حول العالم مع الحفاظ على استقرار "المدينة على الجبل" كما عبّر جملة من رؤساء أمريكا أمثال جون كينيدي وليندون جونسون وجيمي كارتر ورونالد ريغان وصولاً إلى باراك أوباما، أي أنّ المهمّ هو أن تسلم هذه البقعة الجغرافيّة المتمثّلة بأمريكا، لأنّها "الوطن الذي لا غنى عنه"، كما قالت أولبرايت..

نحن بدورنا لا نعلم بوجود سبب نظريّ أو عمليّ يوجب استثناء لبنان من هذه الرّؤى النُّبوئيَّة الدّمويّة، بل نعتقد أنّ لبنان معنيّ بشكل مباشر بها لسببين: أوّلاً، لأنّ فيه من يمنع تحقُّق المشروع الإسرائيليّ الذي هو من لوازم الهيمنة الأمريكيّة على المنطقة والعالم؛ وثانياً، لأنّ في لبنان من هم متناغمون مع هذا المشروع ولو بدرجات متفاوتة في الغلظة والشّفافيّة، أدناها ما أومأ إليه رئيس الجمهوريّة جوزيف عون في استقبال بابا روما مؤخَّراً بقوله: "إذا زال المسيحيّ في لبنان سقطت معادلة الوطن وسقطت عدالتها، وإذا سقط المسلم اختلّت معادلة الوطن". فالمسيحيّ أصل لبنان وروحه، ومن دونه لا يوجد وطن؛ أمّا المسلم فزائد وإضافيّ، مُلحَق - بالنَّصِّ مثلاً - بحيث إنّ غاية ما يترتّب على سقوطه هو "الخلل". ما خانه التّعبير، إنّما أحبّ أن يعبّر بوضوح وصراحة عن رؤيته لهذا الوطن وتبنّيه لهذا النّمط من التّفكير. على كلّ حال، انتهى عهد الرّجل قبل مدّة وليس هو محلّ كلامنا..

يبقى السّؤال: هل سيتحقّق "القدر المتجلّي" في لبنان بأن تجري معادلة "التّنصير أو التّهجير" على الشّيعة، أو على غيرهم، أم أنّ تسمية محور القتل والإبادة بـ "صانعي السّلام" لا يخدع العالِم بحقائق الأُمور، وسيبقى هذا المكوّن على عقيدته الدّينيّة والوطنيّة مهما كانت كلفة الصّمود؟! أم هل سيفهم المتوهّمون أنّهم كانوا ضمن المقصودين بكلام المبعوث الخاصّ من امبراطوريّة التَّحضُّر، توم برّاك، عندما وصفهم بالحيوانات؟! فلننتظر..