تكشف دراسة جديدة صادرة عن مركز إيرفينغ الطبي بجامعة كولومبيا ونشرت في مجلة Nature Genetics أن خلايا سرطان البنكرياس تمتلك قدرة فريدة على “التحدث بلغة” العضو الذي ستغزوه لاحقًا. فعلى الرغم من وجودها ما تزال في البنكرياس، تبدأ هذه الخلايا بالتعبير عن جينات تشبه تلك الموجودة في العضو الذي تخطط للانتقال إليه، سواء كان الرئتين أو الكبد.
هذا الاكتشاف يفتح آفاقا جديدة لفهم آليات انتشار السرطان ويمهّد لتطوير استراتيجيات تنبؤ وعلاج غير مسبوقة.
اختلافات تنبؤية في مسار المرض
بدأ المشروع قبل أكثر من عشر سنوات عندما لاحظ الدكتور غلام مانجي، المتخصص في الأورام الدقيقة والبيولوجيا النظامية، اختلافات كبيرة في معدلات البقاء لدى مرضى سرطان البنكرياس. فقد كان المرضى الذين انتشرت أورامهم إلى الرئتين فقط يحققون نتائج أفضل بكثير مقارنة بمن ظهرت لديهم نقائل في الكبد.
يقول مانجي: “كان من المشجع رؤية مرضى بنقائل رئوية فقط يحققون نتائج جيدة، لكنه كان محبطا أيضا لأننا لم نكن نفهم السبب البيولوجي وراء ذلك.”
عقبات البحث وجمع العينات
ضمّ فريق البحث مئات العينات المخزنة في جامعة كولومبيا، لكن الدراسة تطلبت عينات موثقة سريريا بدقة. وبعد مراجعة واسعة، تمكن الفريق من تحديد 131 مريضا لديهم نقائل معزولة إما إلى الرئتين أو الكبد.
التحدي الأكبر كان تحليل الأنسجة المختلطة التي تحتوي على خلايا سرطانية وأخرى من الجهاز المناعي والأنسجة المحيطة. وللتغلب على ذلك، طوّر الباحثون طرقا حديثة لتحليل تسلسل الحمض النووي الريبي أحادي النواة والتسلسل الكامل للجينوم، ما أتاح رؤية دقيقة لأنماط التعبير الجيني داخل كل خلية.
قاد الدكتور بنجامين إزار الجانب الحسابي للمشروع، حيث عالج كميات ضخمة من البيانات الجينية لاستخلاص الأنماط المميزة للخلايا.
كيف “تتحدث” الخلايا السرطانية لغة العضو المستهدف؟
وجد فريق إزار أن الخلايا السرطانية في موقعها الأصلي داخل البنكرياس تبدأ مبكرًا في اعتماد حالات خلوية تشبه خلايا العضو الذي ستنتشر إليه لاحقا.
يقول إزار: “الخلايا التي ستنتقل إلى الرئتين أو الكبد مبكرا تتبنى خصائص تشبه خلايا هذه الأعضاء. وكأنها بالفعل تتحدث اللغة المناسبة للاندماج في بيئتها الجديدة.”
هذا التكيّف المبكر يساعد الخلايا السرطانية على النجاة والاستقرار في العضو المستهدف بمجرد وصولها إليه.
ومع ذلك، لم يجد الباحثون أي طفرة جينية محددة تفسّر سبب توجه الخلايا إلى عضو معين دون غيره، مما يشير إلى أن العملية قد تكون مدفوعة ببرامج تنظيم جيني معقدة بدلاً من تغيّر واحد مباشر في الحمض النووي.
إشارات مشابهة تظهر في سرطانات أخرى
عندما درس الفريق خلايا مزروعة من أنواع أخرى من الأورام، وجدوا أنماطًا متماثلة من "الاستعداد الجيني" قبل الانتشار، ما يشير إلى أن هذه الظاهرة قد تكون عامة في الأورام وليس محصورة بسرطان البنكرياس.
يتساءل مانجي: “ما هو المفتاح الذي يشغّل هذه البرامج الخلوية؟ هذا ما نسعى لمعرفته الآن.”
تأثيرات مستقبلية على علاج المرض
رغم أن النتائج تحتاج إلى دراسات إضافية، يشعر الباحثون بتفاؤل كبير بشأن تطبيقاتها السريرية المستقبلية. فقد يصبح بالإمكان قريبا:
التنبؤ بمكان انتشار الورم اعتمادا على توقيعات التعبير الجيني.
تحسين خطط المتابعة العلاجية وفقا لوجهة الانتشار المتوقعة.
تطوير أدوية موجهة تستهدف العوامل التي تسمح للخلايا بالاستقرار في العضو الجديد.
ويختتم مانجي بقوله: “داخل هذه التوقيعات التنبئية توجد مفاتيح تمكّن الورم من إنشاء بيئة مناسبة لانتشاره. تعطيل هذه المفاتيح قد يقود إلى علاجات شخصية تستهدف نقائل الكبد أو غيرها بشكل دقيق.”