رأيي أنَّ الإسرائيلي لن يفتح حربًا جديدة على لبنان،لا اليوم ولا غدًا، ولا بعد سنة، ولا إلى يوم القيامة،
ومن يراهن على غير ذلك، فهو إمّا جاهلٌ بالموازين ، أو شريكٌ في الوهم ، أو عبدٌ للهلع والخوف .
إنَّ أكثر من يعرف حقيقة نتائج حرب أيلول اليوم ليس نحن !
إنه نتنياهو نفسه .
هو وحده يدرك حجم الكارثة التي سقط فيها ، لأنه وحده يعرف كم استثمر ، وكم راهن ، وكم خسر .
18 سنة من العمل الاستخباري المتراكم :
خرائط نقطية لكل شبر، لكل مخزن، لكل نفق، لكل غرفة، لكل قائد، ولكل عنصر.
سنوات من العمل الأمني القذر :
اختراق شبكات الاتصال، إدخال البايجر ، إدخال الكاميرات المتلاعب بها ، تحويل البيئة كلها إلى فخّ كبير .
ثم سنوات من التحضير العسكري العالمي للمخزون الهائل لحربٍ لا تنتهي :
مسيّرات ، قبة حديدية، قنابل خارقة، دبابات، جيوش احتياط، دعم دولي مفتوح.
ثم أتت ساعة الصفر:
الإثنين الأسود — 23 أيلول.
أكبر حملة جوية في التاريخ على أصغر جغرافيا ، في أضيق مجال جوّي ، خلال سبع ساعات مجنونة لا يقدر عليها احدٌ وحده ، حتى الجيش الأميركي نفسه ، ولا يستطيع تنفيذها أكبر تحالفٍ إلا بعد أشهر من المناورات !
وفي الأيام العشرة الأولى…
نعم ، ما فعلوه هو المعجزة العسكرية-الأمنية :
فجّروا الأجهزة، قتلوا القادة، دمّروا المواقع، وبلغوا ذروة نشوتهم باغتيال القائد الرمز.
وهنا وقف نتنياهو يبتسم ، كان يرى نفسه داخل بيروت ، كان يرى دباباته على طرقاتها !
كان قد جهّز 70 ألف جندي ليدخل “فاتحًا” بلا رصاصة واحدة ، كان يخطّط لإنهاء المقاومة إلى الأبد، ولقضم الجغرافيا، وتنصيب حاكمٍ باسمه على ما تبقّى من شعبٍ هو بالأساس كالبهيمة التي همّها علفها .
ثم اصطدم "الجيش الأسطورة" بالحقيقة واصطدمت الأحلام بالجحيم .
ستّةٌ وستّون يوماً و"الجيش العظيم" لم يستطع تجاوزَ بِضعِ قرى مدمّرة على الحافة ، لا اختراق، لا انهيار، لا نصر، ولا حتى صورةُ نصر !
ومن هنا ، بالضبط من لحظة انكسار الصورة ، وحين سقط وهم “الجيش المتفوّق تكنولوجيًا ” على أبواب بضع قرىً مهدّمة ، هرب إلى الجغرافيا البديلة.
بعد الفشل الأكبر ذهب إلى سورية، وهي كانت ساقطة، أسقطها ليقطع الإمدادَ لعلَّ الحصارَ يُنقِذُه ، وحشرُ بيئةٍ كاملةٍ في لبنانَ، دونَ نزوحٍ يمنعُ عنه ما هو قادم !
ومنذ تلك اللحظة ، بدأ مسرحُ التهريج الِاستراتيجي .
كل ما يفعله الإسرائيلي منذ سنة ليس حربًا ، بل عُراضاتِ خَيْبَةً وفشل:
قصفٌ محفوظُ التوقيت ،محدودُ العدد ، منخفضُ السقف، بِلا نَفْس، بلا امتداد، بلا مشروع .
يضرب كلَّ يومِ خميسٍ، كأنّهُ يرسلُ دعوةً رسمية:
“سنقصف اليوم… انتبهوا”.
يقتل أرقامًا محسوبة لا تزيد ولا تنقص ، حتى لو ظهر هدفٌ أثمنُ بعدها بثوانٍ ، لا يفعلْ لأنهُ يخافُ حربًا تُنهي كِيانهُ المُصطنع.
يُصدِر ُبياناتِ تطمينٍ لجبهتِهِ الداخلية فورًا :
“لا تخافوا ، لا تهربوا من الشمال ، هذا ليس تصعيدًا ، أنا أهرّج فقط ”.
يعلن إخلاءاتٍ لِهَدَفَيْنِ أو ثلاثة ، كلَّ بِضعةِ أسابيع ، ثم يستغرقُ بالساعاتِ لِضَرْبِها ،لأجْلِ الكاميرا ، لأجلِ العنوان ، لأجل الوهم.
كل هذا لا يساوي 1% من حجم المأزق الحقيقي الذي يعيشه ، هو يرى التحضيرَويرى التسليحَ ، يرى الجهوزيةَ، يسمعُ التصريحاتِ، يراقبُ الحركةَ ، ويَصْمُتُ صَمْتَ الخائبِ العاجزِ عن القيامِ بأيِّ فِعْلٍ حربيٍّ حقيقيٍّ، لِمَنْعِ ذلكَ، أو حتَّى الحدِّ منه، دون جَدوى..
ولَعَمْري ، هذا هو العجزُ والذلّ بعينه.
أيُّ ذُلٍّ هو أكبرُ من بناءِ عشراتِ الجُدْرانِ الحدودية ، والمواقعِ المشرفة ، والِاستنفارِ الدائمِ، والمناوراتِ الدفاعيةِ وإحضارِ المروحياتِ الدفاعيةِ والإطباقِ بالمسيّراتِ على مدارِ الساعة، خوفًا من حزبٍ “مهزوم”، كما تدّعي أميرِكا وكِلابُها النّابحون من لبنان؟!!!
قد يقولُ قائل : ما هذا الانتصارُ الذي لا يستطيعُ صاحِبُهُ أن يدفع عدوانًا، أو يمنعَ قتلًا، أو يردع عدوًا؟
الإسرائيلي يعرفُ حقَّ المعرفةِ أنّ الحزب غير آبهٍ به وبجيشه وطائراته، وأنّهُ يستطيعُ منذُ اليومِ الأولِ أن يردَّ الحجرَ من حيثُ جاء، لكنه، ( لاعتبارات خاصّة به، وبِقِيَمِهِ ومبادِئِه ) يدفعُ العدوانَ عن شعبِهِ وبيئتِهِ الحاضنة، ولن يقوم بأيِّ فِعْلٍ، إلّا حين يصلُ إلى مرحلةٍ تكونُ فيها الضربةُ الأولى هي الضربةُ الأخيرة، أو يصعِّدُ الاسرائيليُّ درجةًإضافيةَ،على سلّم التصعيد (هو أوهن من أن يفعل).
ومِنَ الآن إلى ذلك الوقت،سيقفُ الإسرائيليُّ كالكلبِ الذليل: صاغرًا حائرًا، ينتظرُ مَصيرَهُ المُسْتَقْبَلِيَّ الّذي يرسِمُهُ لَهُ حِزبُ الله ، غيرَ قادرٍعلى الإتيانِ بأيِّ فِعْلٍ حقيقيٍّ يدفعُ عنهُ هذا المصيرَ المحتومَ القاتم.
وستبقى أبواقُهُ الحاقِدَةُ المُغَفَّلةُ المُستأجرةُ في لبنانَ تُهدِّدُنا بالحربِ بعدَ الحرب ! وبالقصفِ بعدَ القصف، وبالدمارِ بعدَالدمار وبالاغتيالات بعد الاغتيالات !
أيُّها الْحَمْقَى الجاهلون…
لقد حارَبَنا ربُّكُمُ الإسرائيليُّ بكل ما يملك، وماتملِكُهُ أميرِكا وأوروبّا من قوة، وقصفَنا، ودمّرَ بيوتَنا ، واغتالَ قادتَنا… وانتهى!!
فماذا أنتم بعدُ فاعِلون؟!!
"الله يطعمْكم الحجّ ، والناس راجعة".