مدافئ الموت في الأردن … حين لا تكفي الإقالة ولا يُغسَل الدم بقرار إداري متسرع
مقالات
مدافئ الموت في الأردن … حين لا تكفي الإقالة ولا يُغسَل الدم بقرار إداري متسرع
مهدي مبارك عبد الله
20 كانون الأول 2025 , 19:16 م


مهدي مبارك عبد الله

لم تعد الشموسة مجرد مدفأة غاز رخيصة بعدما تحوّلت في أيام قليلة إلى أداة قتل صامتة خطفت أرواح عشرة أردنيين أبرياء بينهم عائلات بأكملها نامت ولم تصحُ فاجعة لم تهزّ البيوت وحدها بل هزّت ثقة الشارع الأردني بمنظومة الرقابة وبمعنى المسؤولية، وبجدوى القرارات الحكومية التي تأتي… دائمًا بعد فوات الأوان

شهد الأردن مؤخرا مأساة كبرى بعد وفاة أكثر من عشرة مواطنين بسبب مدافئ الغاز الشعبية المعروفة باسم "شموسة" لكن الأدهى من الكارثة نفسها هو ما كشفته عن الإهمال المنهجي بين جميع الجهات التنفيذية في ظل سؤال بديهي ومحير لماذا تُركت هذه المدافئ القاتلة بين أيدي الفقراء والبسطاء يعتمدون عليها للتدفئة والطهي دون أي إجراءات احترازية رادعة

مديرة مؤسسة المواصفات والمقاييس عبير الزهير كانت آخر من دفع الثمن الإداري حين قررت الحكومة إحالتها إلى التقاعد بعد الفاجعة في خطوة شكلية تُظهر أنها تحملت المسؤولية وحدها لكن السؤال الصارخ الذي يفرض نفسه هل ستكتفي الحكومة بتقديم موظف واحد كضحية بينما تبقى وزارة الصناعة والتجارة والجهات التنفيذية الأخرى خارج دائرة المحاسبة والمساءلة وهل أصبح الإجراء الإداري مجرد "فزاعة" لإيهام الرأي العام بأن هناك محاسبة في حين يستمر تقاعس السلطات عن اتخاذ الإجراءات الجذرية لمنع تكرار هذه الكوارث

التقارير والفحوصات الفنية التي اجريت بعد الحادثة أظهرت خللاً قاتلاً في مدافئ " شموسة " من أعطال في حساسات الأوكسجين وزيادة مميتة في تراكم أول أكسيد الكربون وعدم استخدام خراطيم أو منظّمات السلامة الخاصة بها ما تسبب في وفاة عشرات الأشخاص وهذه المخاطر كانت معروفة مسبقا ولم تكن مفاجئة وقد كانت تستخدم قبل 2020 للطهي وتم منع استخدامها بهذا الشكل في 2021 قبل تعديل مواصفاتها كما أظهرت التحقيقات غياب رقابة فعّالة على الإنتاج المحلي من الجهات التنفيذية الأخرى مما يضع تساؤلاً صارخاً حول مسؤولية الحكومة ككل وليس فقط المؤسسة وكيف سمحت الحكومة لمنتجات قاتلة ورخيصة بالوصول إلى الأسواق ولماذا لم تتحرك الجهات التنفيذية والرقابية لمنعها قبل أن تتحول المخاطر إلى كارثة وفيات جماعية

رغم أن مؤسسة المواصفات والمقاييس قامت بجولات تفتيشية مكثفة وتابعت آلاف المخالفات في مختلف القطاعات إلا أن الفشل المستمر في قضية "شموسة" اظهر أن الآليات الرقابية كانت ناقصة والحقيقة والامانة ان المسؤولية لا تقع على موظف واحد بل هي مسؤولية جماعية للحكومة والجهات التنفيذية التي سمحت للتجار بتوزيع منتجات قاتلة وبقائها في الأسواق دون أي اجراءات رادعه في الأسواق دون رادع؟ ولماذا لم تتحرك وزارة الصناعة والتجارة قبل أن يتحول الخطر إلى كارثة حقيقية

الرد الحكومي بحظر إنتاج وبيع المدافئ المتضررة والتحفظ على آلاف الوحدات جاء متأخرا وبعد وقوع الكارثة ثم اجالة المهندسة عبير الزهير إلى التقاعد في ما بدا كإجراء إداري لتصعيد المسؤولية بينما بقيت وزارة الصناعة والتجارة والجهات التنفيذية الأخرى بعيدًا عن المحاسبة المباشرة وهو ما يفتح تساؤلات كبيرة هل الإحالة على التقاعد كان مجرد البحث عن ضحية إدارية لتغطية فشل أوسع ومن يتحمل مسؤولية السماح للتجار بالاستمرار في بيع مدافئ غير آمنة للفقراء

هل يكفي هذا الإجراء الإداري في حماية ارواح المواطنين الذي يتساءلون باستغراب شديد هل يُعقل أن تكون الإجراءات الحكومية الاخيرة مجرد "تغطية إدارية" لحماية بعض المسؤولين وإيهام المواطنين بأن هناك متابعة ومحاسبة وهل ستكتفي الحكومة بتقديم موظف واحد كضحية أم ستتحمل جميع الجهات التنفيذية مسؤولياتها أمام القانون والرأي العام في حماية حياة المواطنين وضمان ألا يتحول الفقراء مرة أخرى إلى ضحايا في سلسلة جديدة من الإهمال الرسمي المتواصل

الملف لم يعد مجرد قضية مدفأة غير آمنة بل أصبح اختبارًا حقيقيًا لمصداقية الدولة في حماية المواطنين فإلى أي حد يمكن قبول أن تتحمل مديرة واحدة عبء فشل مؤسسات بأكملها والشفافية الواضحة والمحاسبة الصادقة يجب أن تكون شاملة وليس الإحالة على التقاعد أو إصدار قرارات مؤقتة والسؤال اين دور النواب في مساءلة الحكومة بأكملها عن استمرار السياسات الإدارية الشكلية للتغطية على تراكم الإهمال الحقيقي الذي أدى لهذه الكارثة وهل سيتم مساءلة جميع الجهات الشريكة التي سمحت لهذه المنتجات الخطرة بالبقاء في الأسواق وفي متناول الجميع

في الزرقاء وعمّان لم يمت الضحايا بسبب البرد فقط بل بسبب سلسلة طويلة من الإهمال تبدأ من مصانع محلية تنتج مدافئ غير آمنة ولا تنتهي عند جهات رقابية سمحت عن قصد أو تقصير بتداولها في الأسواق منذ سنوات كما أُعلن رسميًا

إحالة مديرة مؤسسة المواصفات والمقاييس إلى التقاعد ( كبش فداء لا يُقنع أحدًا ) وقد تكون إجراءً إداريًا انفالي ومتسرع وهي ليست عدالة وتثير سؤالًا جوهريًا هل اختُزلت كارثة وطنية بحجم عشر وفيات في رأسٍ واحد وإذا كانت هذه المدافئ قد دخلت السوق منذ سنوات وخضعت نظريًا للفحص والترخيص والمتابعة، فأين كانت لجان الفحص والتفتيش اللاحق وتقارير السلامة ومحاسبة المصانع ومساءلة المورّدين والبائعين وهل يُعقل أن تكون مديرة مؤسسة واحدة هي المسؤولة الوحيدة بينما المنظومة كاملة صامتة

التحقيقات أُعلنت واللجان شُكّلت والعينات أُرسلت لكن الشارع لا يسأل عن الإجراءات بل عن الوقاية التي غابت كما يسأل من سمح بتصنيع مدافئ مخصّصة للاستخدام الخارجي وبيعها للاستخدام المنزلي ومن تجاهل غياب أنظمة الأمان وحساسات نقص الأوكسجين ومن غضّ الطرف عن تعليمات سلامة غائبة أو غير مفهومة ولماذا لم تتحرّك الدولة إلا بعد أن تُحصي الجثث

الأسئلة المعلقة في الهواء والتي لم يجب عليها كثيرة والفقراء المعدمين ليسوا مذنبين والضحايا لم يبحثوا عن الموت لأنفسهم بل عن دفء بأقل كلفة في شتاء قاسٍ حيث لجؤوا إلى الأرخص لأن الخيارات الغالية والآمنة أصبحت رفاهية وهنا تكمن الجريمة الأخلاقية حين يُترك المواطن بين غلاء لا يُطاق ورقابة لا تحمي وسوق يعجّ بمنتجات قاتلة وإذا كانت هذه المدافئ فقلا معروفة ومُستخدمة منذ سنوات وممنوعة رسميًا منذ عام 2021 قبل تعديل مواصفاتها فكيف عادت لتقتل بهذا الشكل، ومن سمح لها بالعودة إلى بيوت الأردنيين خصوصا وان المنع كان موجودًا والتحذير كان قائمًا لكن التنفيذ والرقابة والمتابعة كانت غائبة أو غير كافية وهو ما يجعل الكارثة نتيجة تراكم لا نتيجة خطأ طارئ والأخطر من ذلك كانت نتائج الفحوصات الأولية للجمعية العلمية الملكية بأننا أمام منتج لا يفتقر لعنصر أمان واحد بل يعاني خللًا مركبًا كان يجب أن يمنعه من الوصول إلى السوق من الأساس أو على الأقل أن يُسحب قبل أن يحصد الأرواح

التحذير الحكومي بعد الكارثة لا يُنقذ من مات والمثل الشعبي كان صادقًا ( العليق بعد الغارة لا تنفع ) وما يريده الأردنيون ليس إقالة متعجّلة ولا بيانًا مطمئنًا ولا تعليق بيع مؤقت بل كل ما يريدونه تحقيق قضائي مستقل لا إداري ومحاسبة كل السلسلة المصنع المورّد البائع والجهة الرقابية وإعلان نتائج الفحوصات كاملة للرأي العام وإعادة بناء منظومة الرقابة لا ترقيعها وتشديد العقوبات على من يتاجر بسلامة الناس

ما جرى فاجعة غياب ضمير وليس حادثًا مفاجئًا أو قضاءً وقدرًا نزل بلا مقدمات بل جاءت كاشفة لمسار طويل من التناقضات والفراغات الرقابية وناقوس خطر يحذر انه إذا ما انتهت بقرار احالة موظفة على التقاعد فذلك يعني اهانة كبرى لدماء الابرياء وأن العدالة اختنقت كما اختنق الضحايا وما يجب ان يفهم جيدا ان أرواح الأردنيين ليست أرقامًا في بيانات الدفاع المدني ولا خطأً إداريًا يُمحى بتوقيع والشموسة بقسوتها كشفت ما هو أخطر من مدفأة معطوبة بان حكومة غائبة لا تتحرّك إلا بعد أن يدفع الناس الثمن من حياتهم

الحديث عن التقصير الإداري لا يجيب على سؤال كيف بقيت هذه المدافئ في الأسواق رغم قرار المنع، ولا يشرح كيف منحت مهلة للتجار للتخلص منها دون ضمان سحبها فعليًا ولا يفسر لماذا لم تُعلن أسماء المصانع المخالفة للرأي العام منذ البداية ولا لماذا تُرك المواطن وحيدًا بين خيار البرد القاتل أو مدفأة رخيصة تحوّلت إلى أداة اختناق

وزارة الصناعة والتجارة ليست جهة بعيدة عن السوق، بل هي الجهة المسؤولة عن تنظيمه وضبطه وعن حماية المستهلك وعن التفتيش على المحلات وعن محاسبة التجار الذين يبيعون منتجات خطرة أو مخالفة والسؤال البسيط الذي يطرحه الشارع كيف بقيت هذه الصوبات في أيدي التجار؟ وكيف استمرت تُباع للفقراء والبسطاء دون أي إجراءات رادعة، ودون مصادرة شاملة ودون إغلاقات فورية ودون إحالة حقيقية للمخالفين إلى القضاء

النيابة العامة تستعد لفتح تحقيق جنائي، والملف أُحيل للقضاء، وهذا المسار هو الوحيد القادر على إعادة شيء من الثقة لأن ما جرى لم يعد مجرد خلل فني أو سوء استخدام بل قضية سلامة عامة تمس حياة الناس مباشرة وتستدعي محاسبة تبدأ من المصنع ولا تنتهي عند البائع ولا تتجاوز الجهة الرقابية التي لم تضمن تنفيذ قراراتها على الأرض والعدالة الحقيقية التي ينتظرها الأردنيون لا تقوم على البحث عن كبش فداء بل على تفكيك سلسلة المسؤولية كاملة من سمح ومن راقب ومن قصّر ومن تجاهل ومن استفاد ومن صمت وهذه هي الأسئلة التي يجب أن يجيب عنها التحقيق القضائي، لا أن تُدفن تحت قرار إداري أو صمت رسمي

الشارع الأردني لا يبحث عن بطل يُضحّى به لامتصاص الغضب ولا عن موظف كبير يغادر منصبه ليُقال إن الدولة تحركت بل عن إجابة صريحة كيف تُمنع مدفأة ثم تعود كيف تُراقب ثم تُهمل وكيف يُحذَّر منها بعد أن تقتل وكيف يتحول الفقراء الذين اشتروا الأرخص اتقاءً للبرد القارص إلى متهمين بسوء الاستخدام بدل أن يُنظر إليهم كضحايا منظومة لم تحمِهم

الحديث عن تحميل مديرة مؤسسة المواصفات والمقاييس كامل المسؤولية يثير شبهة تبسيط مخل، وربما ظلم إداري لأن منظومة السلامة لا تُدار بشخص واحد ولا تُنفَّذ بقرار منفرد هناك وزارة مشرفة وجهات تفتيش وأمانات ومحافظات وأجهزة تنفيذية ونقابات وجمارك للأسواق وسلسلة كاملة من الفاعلين الذين يفترض أنهم شركاء في الحماية فإذا غابوا جميعًا فمن غير المنطقي أن يُختصر الفشل كله في اسم جهة واحدة وتحميلها المسؤولية الكاملة والأخطر أن الاكتفاء بإقالة مسؤول واحد يرسل رسالة سلبية مفادها أن المشكلة كانت فردية وليست بنيوية وأن ما حدث استثناء لا نتيجة طبيعية لثغرات متراكمة

الواقع المؤلم الذي يفرض نفسه بعد فاجعة الشموسة ليس من أُقيل بل من بقي خارج دائرة المساءلة فالمأساة لم تقع داخل مكاتب مؤسسة المواصفات والمقاييس وحدها بل في سوق مفتوح ومحلات مرخصة ومنتج محلي يُباع علنًا وتحت أعين جهات تنفيذية وامنية يفترض أنها تمتلك سلطة المنع والضبط والإغلاق والملاحقة القضائية وعلى رأسها وزارة الصناعة والتجارة

اخيرا ما بعد الشموسة لا يجب أن يكون كما قبلها لأن الدم لا يُغلق بملف ولا يُغسَل بإقالة، ولا يُبرَّر بتكرار عبارة إجراءات احترازية ما حدث امتحان حقيقي لمعنى المسؤولية إما أن يُستكمل حتى آخر السلسلة أو يتحول إلى سابقة جديدة تؤكد ان الحكومة اليوم أمام مفترق: إما محاسبة فعلية لكل المسؤولين عن تراكم الإهمال أو استمرار سياسة الضحايا الإدارية حيث يُقدّم موظف واحد ككبش فداء بينما تبقى مؤسسات الدولة والإجراءات التنفيذية عاجزة عن حماية الناس ليبقى الفقراء دائماً الحلقة الأضعف في دائرة الموت البطيء بسبب الإهمال الحكومي والكل يتحدث بسخرية واستهزاء الشموسة تقتل والأحكام الإدارية تُغطي الفشل ومديرة المواصفات والمقاييس تحول الى الضحية الوحيدة لتقارير الحكومة

القضية لم تعد مدفأة ولا مؤسسة ولا مديرة القضية باتت مسؤولية دولة بحماية مواطنيها قبل أن يموتوا والاكتفاء بالتحذير بعد تكرار سقوط الضحايا

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية

[email protected]