د. مهدي مبارك عبد الله
فيالسياسة الدولية لا توجد منطقة رمادية بين الحماية والخيانة ولا تُقاس القرارات بموازين الأخلاق بل بدرجة الخوف والحذر ومن هنا تحديدًا يجب قراءة الإصرار الروسي المتشدد على عدم تسليم الرئيس السوري السابق بشار الأسد فموسكو لا تدافع عن رجل سقط نظامه ولا عن رئيس انتهى حكمه بل تدافع عن نفسها وعن نموذجها وعن صورتها كقوة لا تتراجع ولا تعتذر ولا تسلّم أحدًا من حلفائها مهما كانت فاتورة الدم باهضه وكلفة التضحيات كبيرة
منذ اللحظة التي انهار فيها نظام الأسد في 8 كانون الاول 2024 أدرك الكرملين أن السقوط لم يكن سوريًا خالصًا بل ضربة مباشرة لادعاءات روسيا بانها تختلف عن الغرب ولا تترك حلفاءها على قارعة الطريق يعتقلون وان موافقتها اليوم على تسليم الأسد ستكون اعترافً صريحً منها بأن حرب 2015 بكل كلفتها البشرية والاقتصادية والسياسية انتهت إلى حماية مؤقتة لا أكثر ولم تكن لدواعي إنقاذ دولة بل تأجيل سقوطها وأن كل ما قُدم دعم لوجستي وسياسي ودبلوماسي لم يكن كافيًا لبناء نظام قابل للحياة وروسيا دائما لا تعترف بالفشل بل تحاول معاقبة من يذكّرها به لانها لا تزال تسوق نفسها في دول أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية بوصفها الضامن الأخير لتلك الأنظمة المهددة بالانهيار بعكس النظام الغربي المتقلب الذي يتخلى عن اقرب أصدقائه عند أول منعطف
الأخطر في معادلة تسليم الأسد انه سوف يفسر داخل المنظومة الروسية نفسها على أنه كسر للعقد غير المكتوب بين الكرملين ونخبه الأمنية والعسكرية فالدولة التي تطلب من ضباطها ورجالها القتال في الخارج لا تحتاج إلى وعد غير معلن بان من يخدم المشروع الروسي لا يُترك حتى لو سقط المشروع نفسه وان أي تصدع في هذا الوعد يهدد تماسك النظام من الداخل ليس في سوريا وحدها بل في كل ساحات النفوذ الروسي متعددة الاقطاب
هناك فهم روسي دقيق لا يُقال علنا بان الأسد ليس لاجئًا عاديًا بل صندوقًا أسود ورجل يعرف تفاصيل دقيقة لم تُكتب في أي وثيقة رسمية عن طبيعة التدخل الروسي والخطوط الحمراء مع إسرائيل والتفاهمات في الجنوب وعن الصفقات الصامتة مع خصوم غير معلنين وان تسليمه لا يعني محاكمته فقط بل فتح فمه وكشف الاسرار سواء أراده أم أُجبر عليه وفي السياسة الدولية الشهود من هذا النوع وبهذا الحجم هم أخطر من المتهمين انفسهم والأسد اصبح عبء لا يُرمى
الحديث الذي يطرح عن امكانية عقد صفقات محتملة مع الروس مقابل القواعد أو القمح أو العقود هو مجرد قراءة سطحية مبسطة لعقل استراتيجي منظم لا يقايض السمعة بالمال والمصالح وروسيا قد تخسر قاعدة وتبني أخرى وقد تلغي عقدًا وتوقّع غيره لكنها إذا ما خسرت ثقة الأنظمة الهشة التي تراهن عليها في جول عديدة فإنها ستخسر مشروعها التوسعي بأكمله وان تسليم الأسد سيفهم بان موسكو تحميك ما دمت مسيطرا و قويًا فقط
التاريخ الروسي في هذا السياق واضح وملتزم وموسكو لم تُسلّم يانوكوفيتش الرئيس الاوكراني السابق ولم تُسلّم من سبقوه أو لحقوه ولم تفعل ذلك حتى في لحظات قاسية كانت فيها بحاجة ماسة لرضا الغرب وعلى عكس ذلك بنت روسيا صورتها الدولية بوصفها نقيض للنموذج الغربي الذي انتهت فيه تحالفات كبرى إلى مشاهد إذلال وقتل واعدام علني وهذه الصورة مهما كانت كلفتها الأخلاقية كبيرة الا انها تبقى رأس المال السياسي الذي لا تفرّط به موسكو تحت أي ضغوط او ظروف
هذا الواقع بتزمته الشديد لا يعني كليا بأن الأسد بات في مأمن مطلق خاصة وان روسيا لا تحب الأعباء طويلة الأمد وهي بارعة في تحويل الحلفاء السابقين إلى أشباح صامتة وقد يُترك الأسد في عزلته حتى ينساه العالم وربما تُشدّد القيود المفروضة عليه والأسد قد يختفي من المشهد كليا وينتهي في عزلة تامة لكنه لن يُنقل مكبّلً إلى دمشق لأن ذلك سيعني أن روسيا قبلت أخيرًا بقواعد اللعبة التي طالما أعلنت رفضه ولهذا اختارت السمعة بدل العدالة
خلف هذا المشهد المعقد ثمة بعد أكثر حساسية لا يقال في التصريحات ويتمثل في طبيعة العلاقة الشخصية بين الأسد وبعض الدوائر الضيقة داخل الدولة الروسية فالرجل لم يكن مجرد حليف عسكري بل كان جزءًا من منظومة ثقة شديدة الخصوصية سمحت لموسكو بالوصول إلى ملفات أمنية وإقليمية معقدة من شبكات تهريب السلاح إلى خرائط النفوذ الإيراني وصولًا إلى قنوات خلفية مع أطراف إقليمية معادية ظاهريًا والموافقة على تسليم الأسد يعني عمليًا فتح الباب أمام تسريبات لا يمكن التحكم بها حتى لو جرت محاكمته داخل سوريا
البعض قد يتساءل ما الذي تخسره روسيا إن سلّمت بشار الأسد والاجابة تخسر الأساس الذي قامت عليه سياستها الخارجية خلال العقدين الأخيرين تخسر الصورة التي صنعتها عن نفسها كقوة بديلة للغرب قوة لا تتراجع ولا تتنصل من حلفائها حين تتغير الرياح والخسارة الأعمق تتعلق بالرواية ذاتها ومحاكمة الأسد إن حدثت لن تكون مسرحًا للعدالة بل ساحة لتفكيك الدور الروسي بكل تفاصيله وتستدعى ادوار الطائرات التي قصفت والفيتو الذي عطّل والخرائط التي رسمت خلف الأبواب المغلقة وستتحول الأسئلة ايضا من ماذا فعل الأسد إلى من حماه ومن سلّحه ومن منحه الغطاء السياسي عندها لن يكون رأس الأسد سوريًا فقط بل روسي الحسابات ولن تكون موسكو بصدد حماية رجل بل محاولة يائسة لحماية قصة كاملة عن نفسها كدولة لا تُهزم ولا تعتذر ولهذا تتمسك روسيا بالأسد لا بدافع الحب والوفاء بل بدافع الخوف من لحظة يُعاد فيها كتابة تاريخها الحديث على لسان خصومها بينما بقاؤه تحت الإقامة الصامتة شبه الجبرية يضمن احتواء الخطر المتوقع
في ذات السياق لا يمكن فصل الموقف الروسي عن حسابات ما بعد الحرب الأوكرانية فموسكو التي قد تجد نفسها في لحظة تفاوض كبرى مع الغرب لا تريد أن تقدم سابقة أخلاقية مجانية تُستخدم ضدها لاحقًا وتسليم الأسد اليوم قد يُستثمر غدًا للمطالبة بتسليم شخصيات روسية اخرى أو حلفاء جدد أو حتى مسؤولين من الصف الأول بحجة العدالة الدولية والكرملين يرى في هذا المسار فخًا مبهما طويل الأمد لا صفقة آنية مفهومة في تحالف ما بعد السقوط
الأكثر قسوة في منطق التحليل السياسي الشمولي أن العدالة نفسها في عرف الدول الكبرى ليست هدفًا بل أداة وما تطلبه دمشق الجديدة ليس مستحيلًا أخلاقيًا لكنه مستحيل سياسيًا في ميزان القوى الحالي فروسيا لا تفاوض على أشخاص بل على أنماط سلوك وإذا كُسر هذا النمط مرة واحدة فلن يعود قابلًا للإصلاح ولهذا قد ينتظر الأسد سنواته الأخيرة في عزلة باردة لكن لن يُقدَّم قربانًا لأن رأسه لا يخص سوريا وحدها بل يمس صورة روسيا عن نفسها ودورها في المنطقة ) بشار الأسد الشاهد الذي لا تريد موسكو أن يتكلم )
من يطالب روسيا بتسليم بشار الأسد لا يفهم روسيا أو يتظاهر بعدم فهمها فالدول العظمى لا تُحاسَب بمنطق المحاكم ولا تُدار بعاطفة الضحايا بل بمنطق الروايات التي تحمي بها نفوذها وذاكرتها وهيبتها وتسليم الأسد لن يكون فعل عدالة بل اعترافًا روسيًا مدويًا بالفشل وإقرارًا بأن حربًا كاملة انتهت بتقديم الحليف قربانًا سياسيًا وموسكو لا يمكنها تحمّل هذا المشهد لأن المسألة لم تعد تتعلق برئيس مخلوع وبسؤال أخطر هل ما زالت روسيا قوة تُمسك بخيوط اللعبة أم انها اصبحت طرفًا ضعيفا يُجبر على الانصياع لقواعد لم يصنعها في هذا السياق يصبح الاحتفاظ بالأسد ليس خيارًا بل ضرورة دفاعية لأن رأسه بات اختبارًا مباشرًا لهيبة دولة تعرف أن خسارة الرواية أخطر من خسارة أي رجل لان موسكو لا تدافع عن الأسد بل عن نفسها ومن الافل لموسكو ان يُدفن الأسد سياسيًا ولا يُسلَّم قضائيًا
في النهاية العدالة التي يطالب بها السوريون مشروعة أخلاقيًا لكنها تصطدم عمليا بجدار صلب اسمه توازن القوى والدول الكبرى لا تسلّم حلفاءها السابقين بل تعطي للشعوب دروسًا قاسية عن حدود القانون في عالم تحكمه المصالح وبقدر ما يبدو بقاء الأسد في موسكو إهانة للعدالة فهو في منطق السياسة رسالة أوضح للحاكم مفادها انك حين تختار أن تكون حليفًا لقوة عظمى فإن مصيرك لا يُحسم في المحاكم بل في أرشيف الصمت الابدي كوثيقة سرية لا تُسلَّم خوفا من العدالة التي تخشاها روسيا أكثر من الحرب حين يتحول القضاء إلى تهديد وجودي وخطر استراتيجي للدولة الروسية
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية