عبد الحميد كناكري خوجة: لم تقتصر طهران على تكريم المساجد وكتاب الله القرآن، بل أنصفت العربية لغة الوحي والبيان.
مقالات
عبد الحميد كناكري خوجة: لم تقتصر طهران على تكريم المساجد وكتاب الله القرآن، بل أنصفت العربية لغة الوحي والبيان.


” اليوم العالمي للغة العربية في عيون إيران: من احتفال ثقافي إلى وعي قرآني حضاري".

لم تكن اللغة العربية يوما أداة تواصل عابرة في الجغرافيا الإسلامية، بل كانت منذ نزول الوحي_ وعاء المعنى ولسان الرسالة، ومفتاح الفهم الذي به استقامت الدلالة وتجلى البيان، فهي لغة القرآن، لا بوصفه نصا تعبديا فحسب، بل باعتباره نصا مؤسسا لحضارة وقيم ورؤية كونية للإنسان والعالم.

في هذا الإطار، يبرز الحضور المتماسك للغة العربية في الجمهورية الاسلامية الإيرانية، حضورا يتجاوز الإحتفال الرمزي، فالعربية في إيران لم تعامل كلغة أجنبية أو تراث وافد، بل كجزء أصيل من الهوية الإسلامية و إمتداد طبيعي للقرآن وعلومه.

وقد سلط تقرير صادر عن الموقع الإعلامي الرسمي Khamenei IR الضوء على هذه المكانة، كاشفا عن حضور قوي للعربية في دستور الجمهورية الاسلامية الإيرانية، وفي بنية المجتمع، و الجامعات، والحوزات العلمية، وبين العلماء والشعراء، وصولا إلى الوعي الشعبي. كما أبرز التقرير اهتمام قائد الثورة الإسلامية الإمام السيد علي خامنئي”د" باللغة العربية، بوصفها لغة القرآن ورافعة العلوم الإنسانية، وجسرا حضاريا بين الثقافتين العربية والفارسية.

ويستند هذا الإهتمام إلى نص دستوري صريح، إذ تنص المادة السادسة عشرة من دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية على وجوب تدريس اللغة العربية في جميع الصفوف الإبتدائية حتى نهاية المرحلة الثانوية. ووفق هذا الأصل، يلزم الطلاب الإيرانيون بتعلم العربية، كما يشترط اجتياز اختبار فيها ضمن امتحانات القبول الجامعي، إلى جانب المواد التخصصية الأخرى. وتشير الإحصاءات إلى أن عدد طلاب المدارس الثانوية في إيران يناهز ستة عشر مليون طالب، مايعكس اتساع هذا الإلتزام التعليمي.

ولا يقف حضور العربية عند حدود التعليم العام، بل يتجلى بوضوح في التعليم العالي، حيث تعد اللغة العربية أحد التخصصات الأكاديمية البارزة، وتدرس في درجات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، في اختصاصات اللغة وآدابها وترجمتها. كما تمثل الحوزات العلمية مركزا أساسيا للعناية بالعربية، إذ تدرس فيها مواد رئيسية بهذه اللغة، وتوفر للطلاب كتب ومراجع عربية باعتبارها أداة لاغنى عنها لفهم النصوص الدينية والفقهية والفلسفية. وقد بلغ تأثير اللغة العربية في إيران حدا جعلها جزءا من الهوية الدينية والثقافية لأبناء الشعب الإيراني العريق، حيث يتجلى ذلك بوضوح في الأدب الفارسي.

وفي هذا السياق، يشير الشهيد المفكر مرتضى مطهري في كتابه ”الخدمات المتبادلة بين الإسلام وإيران" إلى أن هذا التداخل العميق متسائلا: ”لو كان إحياء اللغة الفارسية نابعا من مواجهة الإسلام، فلماذا اجتهد الإيرانيون أنفسهم في إحياء اللغة العربية وعلومها؟". ويستشهد بتجربة كبار شعراء إيران مثل الرومي وسعدي ونظامي وحافظ وغيرهم، الذين كتب بعضهم بالعربية، في شهادة تاريخية على عمق التفاعل الحضاري. ويؤكد الدكتور محمد علي آذر شب، الأستاذ البارز للغة العربية وآدابها في جامعة طهران، أن العربية والفارسية هما لغتا الحضارة الإسلامية، مشيرا إلى أن الجامعة العربية نفسها أقرت الفارسية لغة رسمية في جامعات العالم العربي.

ويضيف: ”اللغة العربية ليست لغة قوم، بل لغة حضارة من المحيط إلى أقصى الشرق".

في إطار تعزيز هذا الحضور، تحتفل الجامعات الإيرانية سنويا باليوم العالمي للغة العربية، كما لعبت الجمهورية الإسلامية الإيرانية دورا بارزا في نشر وتحقيق المخطوطات العربية، إذ تشير التقارير إلى وجود أكثر من مليوني مخطوطة عربية محفوظة حاليا في إيران، استفاد منها باحثون عرب ومسلمون. ويمتد هذا الإهتمام إلى معارض الكتاب ووسائل الإعلام التي خصصت أقساما كاملة للبث باللغة العربية، في جعل واع لها وجسرا للتواصل مع العالم الإسلامي.

وفي الأفق الأوسع، يندرج هذا كله ضمن مشروع بناء حضارة إسلامية جديدة، المشروع التي أكدت عليه الثورة الإسلامية وتبناه الأمام السيد علي خامنئي”د" المعروف باهتمامه الواسع العميق بالأدبين العربي والفارسي، وتعاطيه معهما باعتبارهما رافعتين حضاريتين متكاملتين لا لغتين منفصلتين.

إن إنصاف الجمهورية الإسلامية الإيرانية للغة العربية، ودفاعها الدائم عن القرآن الكريم، وتكريمها ليس فقط لمسجد الإسراء والمعراج وقدس الأقداس بل أيضا للمساجد من خلال إعلانها يوم المسجد العالمي تكريما لبيوت الله وإعلانها أيضا ليوم القدس العالمي والذي بات الإحتفال والإحتفاء به قاب قوسين أو أدنى من خلال شهر الرحمة والغفران الذي أصبح على الأبواب.

إنها سياسة طهران منذ توهج جذوة ثورتها الإسلامية إلى يومنا هذا، تلك السياسة التي صانت المقدسات و أنصفت المظلومين والمستضعفين ووقفت كشوكة حادة في حلق قوى الهيمنة والشر والإستكبار والأطماع وخلعت عنها ثوب الهيمنة والخضوع والخنوع لتلك القوى المتمثلة أولا بحكومتي الطاغوتين الأكبر والأصغر ومن دار في فلكهما من بعض حكومات قوى الغرب المنافق.

إن اهتمام حكومة الثورة الإسلامية الإيرانية الواسع هذا بكل ماسبق ذكره، ليس فعلا ثقافيا عابرا، بل تعبير عن رؤية تعتبر اللغة هوية، والقرآن مرجعية، والحضارة مشروعا أخلاقيا مفتوحا، ومن هذا المنظور، تغدو العربية في طهران لغة وعي لاطقس، ولغة معنى لا شعار، حين يراد للبيان أن يظل أمينا على رسالته. وللقارئ اليوم، تصبح تجربة إيران نموذجا عمليا لفهم كيف يمكن للغة أن تكون جسرا حضاريا ومفتاحا للمعرفة والهوية مؤكدة أن احترام اللغة العربية هو احترام للقرآن وللتراث الإسلامي وللإنسانية جمعاء. وبكلمة ختامية أخرى، بهذا المعنى، يتجلى المشروع القيمي بوصفه حراسة للمعنى قبل الشعيرة، وصونا للقداسة من الإبتذال، واستنهاضا لضمير جامع يرى في الروحانية قوة سياسية، وفي الوعي مسؤولية تاريخية، ومن العدالة أفقا جامعا للأمة.

مفكر كاتب حر، وإعلامي سوري سابق في الغربة.