بينما تتصاعد نيران الحر ب في غزّة وتتوسع المــواجهات على الحدود اللبنانية، تتّجه الأنظار اليوم الاثنين نحو البيت الأبيض، حيث من المقرر أن يلتقيَ رئيس وزراء الاحتـ.ـلال "الإســرائـيـلي" بنيامين نتنياهوبالرئيس الأميركي دونالد ترامب.
هذه الزيارة، التي يسوَّق لها كاجتماعٍ طبيعيٍّ بين حليفين، تحملُ في طيَّاتِها مخاطرَ جسيمةً ورؤىً إستراتيجيةً تتجاوز بكثيرٍ التعاملَ مع النزاعات الحالية.
فالهدفُ الحقيقيُّ، وفق ما أراه، ليس مجردَ طلبِ ضماناتٍ أو مناقشةِ وقفِ إطلاقِ النار، بل الهدفُ محاولةُ انتزاعِ ما يُشبِهُ "ضوءًا أخضرَ" من الإدارةِ الأميركية، لِاستمرارِ التصــعيدِ العسـكري وتوسيع نطاقِه. والأخطرُ من ذلكَ كُلِّه: أنَّ هذه الزيارةَ تأتي، في ظل أجواءٍ داخليةٍ أميركيةٍ مُثْقَلَةٍ بالانقساماتِ والفضائحِ التي ربما تُسَهِّلُ لنتنياهو ما عَجَزَ عنهُ في مُناسباتٍ عِدَّةٍ سابقة.
"الغطرسةُ "الإســــرائـيـلية": إشعالُ النارِ لصالحِ توسّعٍ بِلا حدود".
من غزّةَ إلى الجنوب اللبناني، تبدو السياسةُ "الإســــرائـيـليةُ" اليومَ أقربَ إلى منطقِ القوّةِ المطلقةِ والتَّوَسُّعِ غيرِ المُقَيَّد، لا إلى سياسةِ الدفاعِ، أو البحثِ عن حلول.
لقد حوّلت ضغوط إسرائيلَ، العسـكريةَ والسياسية، مناطقَ واسعةً في "الشرقِ الأوسط" إلى ساحاتٍ منكوبة، وأصبحت شَهِيَّتُها تجاهَ مزيدٍ من التصعيد بلا سقف.
الزيارة المرتقبة ليست استثناءً من ذلك، فهي في منظور كثير من المراقبين تأتي في سياق حملة "إســـ.ـرائـيـلية" للضغط على واشنطن من أجل رفع سقفِ الدعمِ العسكري والسياسي، في الملفات التالية:
- توسيعِ العمليات في غزّة تحت ذريعةِ "محاربةِ الإرهـاب".
- تشديدِ الضغوطِ على لبنانَ وحـزبِ اللهِ، بذريعةِ نزعِ ســلاحِ المقاومة.
- دفعِ الولاياتِ المتحدةِ نحوَ مــواجهةٍ مباشرةٍ معَ إيران، والذي أراهُ الهــدفَ الرئيسيَّ للزيارة، وهو ما سيُعَقِّدُ المشهدَ الإقليميَّ بأســره.
- ببساطة، "إســـ.ـرائـيـل" لا تبحث عن سلام، بل تبحث عن غطاء دولي لسياساتها الـ..ـعـ.ـدوانية والتوسّعية.
اللوبي الصهـــيونـ.ـي في واشنطن وضغط ترامب:
بينما تسعى "تل أبيب" لتثبيت نفوذها، فإن موقع الولايات المتحدة في هذا المشهد ليس حياديًا. فقد لعبت لوبيات ضغط دورًا فاعلًا في صياغة السياسات الأميركية تجاه "الشرق الأوسط" لصالح "إســـ.ـرائـيـل"، حيث تقدّم باستمرار روايةً تؤكّد التهديد الإيراني كذريعة لتبرير دعم عسـ.ـكر ي واسع للإجراءات "الإســـ.ـرائـيـلية"، حتّى عندما لا تتوافق تلك الإجراءات مع المصالح الإستراتيجية الأميركية.
لكن ما يجعل هذه اللحظة أكثر حساسية هو الوضع الداخلي في الولايات المتحدة، حيث يتعرّض الرئيس ترامب لضغوط غير مسبوقة بسبب تداعيات فضائح جيفري إبستين، التي أثارت في الآونة الأخيرة جدلًا واسعًا حول علاقات شخصيات سياسية بارزة داخل واشنطن. فقد أُفرج عن سلسلة من الوثائق التي أظهرت تواجد اسم ترامب في سجلات طا ئرة إبستين الخاصة، ما أثار ردود فعل سياسية واسعة ومطالبات بالشفافية.
ولم تقتصر ردود الفعل على مجرد استنكار، بل ظهرت اتهامات بوجود تغطية وإخفاء متعمّد لملفات، واتهامات للبيت الأبيض ووزارة العدل بالتعامل الانتقائي مع الوثائق. وقد تولّد عن ذلك انقسام سياسي داخلي حاد، حيث هدّدت مجموعة من النواب بمساءلة المسؤولين أو اتّخاذ خطوات قانونية في حال استمرار إخفاء المعلومات.
هذا المناخ السياسي المتوتّر يعزّز الضغط على ترامب، ويُضعف من قدرته على اتّخاذ قرارات مستقلة بعيدًا عن التوازنات الداخلية. ويأتي هذا في وقت ترغب فيه "إســـ.ـرائـيـل" في استغلال كلّ ثغرة في السياسة الأميركية لضمان دعم غير مشروط.
هل الهـ.ـدف الحقيقي جرّ أميركا إلى حـ.ــرب مع إيران؟
الأخطر في كلّ هذا ليس فقط طلب نتنياهو ضوءًا أخضر للعــ..ــمليات في غزّة ولبنان، بل أن الزيارة نفسها تُقرأ كجزء من حملة متواصلة لجرّ الولايات المتحدة إلى صراع أوسع مع إيران، صراع قد يتحوّل إلى حـ.ــرب شاملة تهـ.ـدف في جوهرها إلى النيل من النظام الإيراني وإسقاطه، وهو مشروع تتبنّاه دوائر متشدّدة في "تل أبيب" منذ سنوات.
تقارير إعلامية متعددة تشير إلى أن "إســـ.ـرائـيـل" تستعد لخيارات عسـ.ـكر ية متعددة ضدّ إيران -من هـ..ـجوم "إســـ.ـرائـيـلي" منفرد، إلى عــ..ــمـلية مشتركة مع القوات الأميركية، أو حتّى تنفيذ ضربة أميركية بالكامل- وأن القرار النهائي مرتبط بنتيجة مباحثات نتنياهو مع ترامب في 29 كانون الأول. وقد نقلت مصادر عن مسؤولين في واشنطن قولهم إن نتنياهو يدرس عرض “خيارات مشاركة الولايات المتحدة في أي عــ..ــمـلية عسـ.ـكر ية ضدّ إيران” كجزء من إستراتيجيته خلال الزيارة.
لكن واشنطن نفسها تدرك بوضوح أن دخول حـ.ــرب إقليمية واسعة ضدّ إيران ليس في مصلحة الولايات المتحدة؛ إذ إن ذلك قد يجرّها إلى دوامة من التدخلات التي لا تنتهي، وتفاقم الانقسامات الداخلية في المجتمع الأميركي، خاصة في وقت يحاول فيه ترامب ترسيخ صورته كزعيم عالمي قوي لكنّه حريص على مصالح بلاده ولا يرغب في خوض حروب بعيدة عن مصالح الأمن القومي المباشر للولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإن الضغوط الداخلية على ترامب ليست مجرد سياسية، فهي مشحونة أيضًا بخلافات حول كيفية التعامل مع تداعيات فضائح جيفري إبستين. إن هذا الضغط المتواصل يُضعِف قدرة ترامب على حماية استقلالية قراره السياساتي ويمثّل عنــ.ـصر توتر داخلي يمكنه أن يدفعه -تحت وطأة الانقسام السياسي والاتهامات المتبادلة- إلى تقديم تنازلات غير محسوبة لمؤثرين وزعماء خارجيين، من بينهم نتنياهو واللوبيات الصهـــيونـ.ـية، وهو ما قد يسهّل توجيه الإدارة نحو دعم تدخل عسـ.ـكر ي ضدّ إيران تحت ذريعة "التهديد الأمني"، رغم أن واشنطن نفسها لا ترى لهذا التدخل مصلحة واضحة في حساباتها الإستراتيجية.
بهذا الشكل، لا يبقى موضوع زيارة كانون الأول مجرد ندوة سياسية بين رئيس وزراء "إســـ.ـرائـيـلي" ورئيس أميركي، بل هو اختبار حقيقي لقدرة القرار الأميركي على مـ..ـقاومة الضغوط الداخلية والخارجية، وما إذا كان سيُستخدم كأداة لجرّ الولايات المتحدة إلى صراع إقليمي لن يخدم سوى أجندات توسعية وتكتيكات سياسية قصيرة النظر لمصلحة "إســـ.ـرائـيـل الكبرى"، على حساب استقرار "الشرق الأوسط" ومستقبل شعوبه.
الخاتمة: مفترق طرق دراماتيكي.
ليست زيارة نتنياهو مجرد اجتماع بين زعيمين؛ بل هي مسرح توازنات دولية مشحونة بين:
- غطرسة "إســـ.ـرائـيـل" التوسّعية التي لا تعرف حدودًا.
- لوبيات ضغط في واشنطن تدفع بالسياسة الأميركية نحو مصالح خارجية.
- ضغط داخلي على ترامب قد يقوده إلى تنازلات خطيرة لا تخدم سوى تصـ..ـعيد الصراع.
وفي الوقت الذي ترى فيه "إســـ.ـرائـيـل" في حـ.ــرب مع إيران فرصة لإعادة كتابة قواعد النفوذ في "الشرق الأوسط"، يدرك القرار الأميركي على الأقل أن الحر ب الإقليمية ليست في مصلحة أميركا أو شعوب المنطقة.
ويبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: هل ستصمد الولايات المتحدة أمام ضغوط اللوبيات وذكريات فضائح إبستين؟ أم ستسمح لغطرسة "إســـ.ـرائـيـل" في 29 كانون الأول أن تُخضع سياسة واشنطن وتجرّها إلى حـ.ــرب لن تنتهي؟.