كتب حليم خاتون:
يتسابق كل المحللين، اقتصاديين وسياسيين على وصف الوضع الحالي في لبنان بالإنهيار.
مُعظم جماعة 14 آذار يدورون ويلفّون، قبل أن ترسي اتهاماتهم على منظومة الفساد التي يحميها حزب الله، من وجهة نظرهم طبعا، سواء كانت وجهة النظر هذه ناتجة عن تفكير عقائدي "حر"،أو عن توجيهات من السفارة الأميركية التي أصبح كل دورها، تنسيق صرف مليارات الدولارات، في سبيل إيقاف عدوى القوة والعزم اللذين تزرعهما المقاومة في الكيانات والمجتمعات المُستضعفة المنتشرة في العالم، حيث تعاني من هيمنة الإمبريالية الأميريكية.
في المقابل، ترد معظم أصوات 8 آذار بأن الراعي الأساسي الوحيد لمنظومة الفساد في لبنان، هو الغرب عموماً، بجميع مؤسساته المالية والإقتصادية
والسياسية، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، التي لم تبخل على رياض سلامة بالجوائز، والتي أهدت لبنان، بالتعاون والتضامن مع السعودية ومنظومة الفساد السوري التي كان يمثلها عبدالحليم خدّام؛ أهدت لبنان كل طاقم الفساد الذي جاء مع رفيق الحريري واستمر مع فؤاد السنيورة، بطل فضائح وزارة المال كلّها.
كل ما سبق، يعرفه كل لبناني، بغض النظر عن انتماءاته العقائدية،أو الطائفية...
لكنّ ثلاثة كتّاب إعلاميين تناولوا هذا الوضع مُجدداً، في اليومين الأخيرين، بعدما رأوا من العقم السياسي الذي جعل الانهيار ينتقل إلى مرحلة السقوط الحر بلا أي ضوابط،(Chute libre).
الأستاذ سامي كليب، تناول الوضع من زاوية الوضع السياسي العام وأزمة الشرق الأوسط، ومآلات الصراع العربي الصهيوني، بعدانتقال عدة أنظمة عربية، علناً، إلى الجانب الصهيوني وضد كل منطق الصراع على البقاء والوجود.
الأستاذ غسّان سعود، الذي وَصّف الوضع الاقتصادي والمعيشي في لبنان عامة،وتناول تطورهذا الوضع داخل بيئة المقاومة ومدى تأثير وتأثر بقية المجتمع اللبناني به.
ليأتي بالأمس الكاتب الأخ أنيس النقاش ويتناول كلا الوضعين معا، سياسياً واقتصاديا.
إذا كان الكتّاب الثلاثة أرادوا معرفة موقف المقاومة من هذه التطورات، وكيفية وماهية ردًها على التحديات؛ فقد انفرد الأخ أنيس بالدعوة الصريحة، وإن كانت مُبطنة بعض الشيء،
إلى استلام حزب الله للسلطة في لبنان.
في أدبياته، في الثمانينيات من القرن الماضي، أعلن حزب الله أن من حقًه الطبيعي الدعوة إلى قيام نظام إسلامي في لبنان، قبل أن يعود إلى الحديث عن الخصوصية اللبنانية.
هل تخلّى حزب الله عن هذا الهدف؟
الأرجح أن حزباً عقائديا ومبدئيا كحزب الله، لا يُمكن أن يتخلى عن هدف
تطبيق وجهة نظره على مجتمعه.
هذا حقّ مشروع لكل تيار أو حزب أومنظمة.
فكما يحلم الماركسي، بإقامة نظام الاشتراكية العلمية، كذلك يحلم الكتائبي بإقامة نظام الله-الوطن- العائلة...
ويحلم القواتي بإقامة جمهورية بشير الأقرب إلى فاشية موسيليني...
بينما يحلم التقدمي الاشتراكي باستمرار إمارة جنبلاط المُغلّفة كذباً وزوراً، بعقيدة أممية الإشتراكية الدولية الثانية.
كذلك تيار المستقبل كلّ همه، نظام أشبه بكازينو، أو ملهى بحجم وطن، يتلطّى بالطوائف والمذاهب، بينما يُؤمًن السيطرة الكاملة لرجال الأعمال من كل العالم ليكون لهم مونتي كارلو أخرى لكن في لبنان.
كل هؤلاء، اصطدموا بالواقع اللبناني المُعقّد.
من بين كل هذه العقائد التي تراجعت عن مبدئيتها غير الواقعية للواقع اللبناني، كان حزب الله هو الحزب الوحيد الذي كلما ليّنَ موقفه ازداد قوة.
صحيح أن الحزب لا يُمكن أن يتخلّى عن عقيدته الإسلامية، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ حزب الله استطاع إقناع جمهور لا بأس به من الطوائف الأخرى، وحتى من العلمانيين، بأنه ليس ديكتاتوراً، ولن يفرض على اللبنانيين ما قد لا يوافقون عليه.
لكنّ المشكلة أنّ الطرف الآخر، ومن منطلق العجز عن مواجهة مبدئية الحزب "وبراغماتيته" القائمة على التعايش حتى مع العلمانية، لا يجد سوى اتهامات جوفاء يوجًهها إلى المقاومة، بالتعصب المذهبي وبالسعي للسيطرة على كل البلد.
بالتأكيد،وانا من الذين عايشوا ويعايشون بيئة المقاومة، لا أستطيع أبداً نفي وجود عناصر، وربما مجموعات من المتعصّبين
مذهبياً، أو بالأحرى المتخلّفين مذهبياً، حيث تعاليم الحزب والمرجعيات
الشيعية، سواء في قم أو النجف، وكذلك السيد فضل الله، ترفض هذا التعصّب وتصل إلى حد لعنه، إذا لم أقل تكفيره.
لكنّ هجوم الأطراف المُعادية للمقاومة، سواء في الداخل أو الإقليم أو حتى الخارج، والذي يستند دوماً إلى أكاذيب جوفاء بلا أساس، خلق لدى بعض قيادات الحزب نوعاً من عقدة "الذنب"، على ذنبٍ غير موجود أصلاً.
أن يشعر بعض الألمان بعقدة الذنب تجاه الهولوكوست الذي ارتكبه النازيون، قد يكون لديه شيء من المنطق، وليس كل المنطق، لأن النازيين في النهاية هم الذين ارتكبوا تلك المجازر، وليس الألمانيين.
أمّا أن يشعر حزب الله بالذنب تجاه طموح أخذ السلطة، فهذا يُصبح عقدة، وليس على الإطلاق ذنباً.
كان باستطاعة الحزب حين رفض الفاسدون إقامة محطات الكهرباء الإيرانية لكلّ لبنان، أن يعمل على بناء هذه المحطات في مناطق نفوذه، لكنّه لم يفعل خوفاً من اتهامات "دولة داخل الدولة"، التي يلاحقه بها خصومه دوماً.
وغير الكهرباء، هناك الكثير، وليس آخرها، شراء الوقود من إيران بالعملة اللبنانية، بدل ترك بيئته تعاني من شركات استيراد الوقود الاحتكارية... للبساتنة وجنبلاط.
مع الطلب والرجاء أن تتمّ العودة إلى مقالات الأساتذة: سامي كليب، غسّان سعود، وأنيس النقاش،
وأرى نفسي ملزماً بدعوة الإخوة في حزب الله لدراسة هذه المقالات جدياً، والاعتبار منها.
إن ما طرحه الأخ الأستاذ أنيس جدير جداً باعتماد برنامج من مرحلتين من بنات أفكاره هو، واستناداً إلى ما ذكره الكاتبان الآخران.
المرحلة الأولى تأمين مجتمع بيئة المقاومة، بكل المُستلزمات الضرورية المعيشية وغير المعيشية، من طبابة وتعليم ومياه وكهرباء وتموين ووقود وزراعة وصناعة .....الخ
وجعل هذه المناطق نموذجاً عبر التفاعل بينها وبين المناطق الأخرى.
وخلال هذه المرحلة، يقوم الحزب ببناء جبهة وطنية عريضة، أساسها وشعارها الوحيد الجامع:"لبنان وليس إسرائيل".
وهذه الجبه ةتضم كلّ الأحزاب والتيارات، بما في ذلك، من يتخلى عن تعصبه الأعمى ضد المقاومة، ويعلن توبته عن التعامل مع أميركاوجبهة الصهاينة العرب.
قد تطول هذه المرحلة أو تَقصُر، حسب تطور الصراع في المنطقة.
في هذه الأثناء، تكون بيئة المقاومة مرتاحة، وتتوسع ب انضمام تلقائي لمناطق الحلفاء إليها.
وعند الحاجة، وبعد نضج الأمور، يتوجب على الحزب، بمعيّة هذه الجبهة الوطنية العريضة الخالية من الفاسدين حتماً، أخذ السلطة في البلد والسيطرة الكاملة على كل أجهزة الدولة كمقدّمة لا بدّ منها لقيادة الصراع المصيري ضد الصهاينة وحلفائهم، أعراباً كانوا أم أغرابا.
إنها الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل.
هكذا بدأ ماو تسي تونغ ثورته التي انتصرت قبل سبعة عقود وقامت ببناء الصين المعاصرة التي تنافس أميركا اليوم على مركز الدولة العظمى الأولى في العالم.
من يدرس ثورة الخميني التي بدأت بمحاضرات تُسجّل على كاسيتات وتُهرّب إلى داخل إيران،يُعرف أنّ وضعنا اليوم أكثر تقدماً بأشواط، مما كانت عليه الأوضاع في إيران.
ففي أقل من ثلاثة عقود، استطاع الخميني الانتصار، وها هي إيران، ندٌّ، بكل مافي الكلمة من معنى، للدولة الأعظم في العالم، أميركا.
إنّ الوضع التاريخيّ، يحتاج إلى قياداتٍ تاريخية، تتخذ قرارات تاريخية.
نكون أو لا نكون، هذه هي القضية.