فضيحة المستشرق كريمر صاحب نظرية "التاريخ يبدأ عند سومر"
ارتبطت الأبحاث الآثارية في البلدان العربية بأمرين:
أولاً
ببدئها على نطاقٍ واسعٍ في ظل الاستعمارين البريطاني والفرنسي من قبل مستشرقين من دون وجود جهة عربية مستقلة تراقب وتمحص ما يتم إيجاده، أو تحافظ عليه، ما أتاح للقائمين عليها أن يسرقوا ويهمشوا ويبرزوا ما يشاؤون من آثارنا وما يمكن استنتاجه حولها، لنجد كثيراً من آثار تاريخنا القديم في متاحف الغرب حتى اليوم.
ثانياً
أن البحث الآثاري في بلادنا اهتدى علناً بأعين وأجندة توراتية تعاملت مع منطقتنا من منظور إثبات ما جاءت به التوراة وتكذيب أو تهميش ما يناقضها، ما خلق تحيزاً أيديولوجياً واضحاً في البحث الآثاري الاستشراقي واستنتاجاته في بلادنا كتب عنه كثيرون، ومن ذلك مثلاً إطلاق العالم النمساوي اليهودي شلوتزر عام 1781م وصف "ساميين" التوراتي على الأقوام العربية وحضارتها، وهو التعبير الذي تم تبنيه وفرضه عملياً في الدراسات الاستشراقية المتعلقة بتاريخنا القديم (وسنسوق مثالاً بارزاً على معنى كلمة "فرضه" آنفاً بعد قليل).
وقد ترافق فرض المنظور التوراتي مع تحيزٍ غربيٍ مسبق أبى عليه غروره واستعلاءه العنصري الأبيض أن يُقر أن أجداد العرب الحاليين القدامى هم صناع الحضارة البشرية الأولى، فراحوا باتجاهين، اتجاه فك الارتباط أكاديمياً بين التاريخ العربي القديم قبل الإسلام وبين التاريخ العربي بعده، واتجاه التعمية على الأصول القومية للأقوام القديمة في الوطن العربي، وصولاً لشطحة اعتبار السومريين من كوكب آخر غير الأرض، كما بينّا في مادة سابقة.
لنأخذ السومريين مثلاً... يصر بعض الغربيين على:
1) اعتبارهم أساس الحضارة في المنطقة، وفي العالم .
2) على اعتبارهم غير "ساميين". وقد كشف د. أحمد سوسه، وهو عالم ومؤرخ قدير ومُعترف بتميزه، في كتابه "حضارة وادي الرافدين بين الساميين والسومريين" (1980)، أن الاستيطان العربي القديم القادم من شبه الجزيرة العربية ظهرت آثاره لأول مرة في الألف التاسعة قبل الميلاد في تل حلف في الحسكة على الفرات، كما أظهر وجود حضارات مسماة "سامية"، أي عربية قديمة، مثل "العُبيديين"، أقدم من السومريين بكثير، في العراق وجنوبه، ومع ذلك يصر المستشرقون حتى اليوم على الاحتفاء بالسومريين كصناع للحضارة الأولى على طريقة "عنزة ولو طارت"!
ليس هذا فحسب، بل وثق د. أحمد سوسه في كتابه (ص. 20) كيف يتم تخويف العلماء والباحثين الذين يجرؤون على مخالفة التيار المتغرب والصهيوني السائد في علم الاستشراق المتعلق بمنطقتنا.
يقول سوسه: "إن الخبير الآثاري المعروف سيتون لويد الذي كان يعمل خبيراً في دائرة الآثار العراقية عدة سنوات كتب مقالاً عن منطقة أريدو (في محافظة ذي قار في العراق، على مقربة من "أور" التاريخية) نُشر في مجلة سومر سنة 1947 يستغرب فيه كيف يجرؤ كريمر، الخبير الآثاري في موضوع السومريات، أن يصرح في كتابه "الأساطير السومرية" الصادر عام 1944 أن معظم أراضي السهل الرسوبي من بلاد ما بين النهرين كان بلا شكٍ يسكنها الساميون عندما نزح السومريون إلى العراق من غير أن يخشى العاقبة... فيقول لويد ما نصه حرفياً: "كريمر لم يخشَ أن يصرح في كتابه "الأساطير السومرية" بأن معظم أراضي ما بين النهرين دجلة والفرات كان بلا شك يسكنها الساميون"!
حرفياً، بالنص الأصلي من القسم الإنكليزي من مجلة سومر، المجلد 3، العدد 2، 1947، ص. 91، جاء تهديد لويد هكذا، في مجلة علمية أكاديمية: In “Sumerian Mythology”, published as recently as 1944, Kramer IS NOT AFRAID to assert that at the time of the Sumerian invasion much of the land between the Tigris and the Euphrates was no doubt inhabited by the Semites.
ويبدو أن الرسالة كانت لجميع العلماء والآثاريين، وإلا لكان التهديد قد أرسل لكريمر مباشرة بشكلٍ خاص. فماذا كانت النتيجة؟ تراجع كريمر عن موقفه، وأعاد نشر الكتاب لاحقاً بعد حذف استنتاجاته حول أولوية العرب "الساميين" في العراق، ومن ثم نشر كتاباً كاملاً عام 1959 بعنوان: History Begins at Sumer، منقلباً على بحثه التاريخي والآثاري السابق، ومعلناً أن "التاريخ يبدأ عند سومر"! لقد جعلوا منه أمثولةً لغيره من المؤرخين. وهذا هو ما يفترض أن يتعلمه الجميع، وما يظنه كثيرون علماً آثارياً غربياً متخصصاً وجاداً وموضوعياً.
ما سبق مهمٌ منهجياً لأنه يلقي الضوء على الكثير من اللغط المتعلق بتاريخنا القديم، لا سيما كلما طرحت العلاقة بين العروبة القديمة من جهة، والعروبة الإسلامية والعروبة المعاصرة من جهةٍ أخرى، على بساط البحث.
نحن إذاً في مواجهة تيار كامل مستشرق ومتصهين، وقد طوّر من أدواته الأكاديمية مع مرور الزمن وأصبح أكثر احترافاً وحذقاً في تسويق زعمه احتكار الحقيقة بشأن تاريخنا العربي القديم.
لكن ذلك لا يعني على الإطلاق أننا بلا أسلحة، أو أن كل العلماء والمؤرخين خضعوا للتيار السائد. ولولا الباحثون والمؤرخون الجادون أصحاب الضمير الحي لبقينا في الظلام الدامس حول حقيقة تاريخنا القديم، فهناك مثلاً كتاب غوستاف لوبون "حضارة العرب" الذي يقول فيه إن الشعوب "السامية" متحدرة من أصل واحد، وغوستاف لوبون كان منبوذاً أكاديمياً. بالمقابل، هناك ويل ديورانت، واضع سلسلة مجلدات "تاريخ الحضارة"، التي تم التطبيل والتزمير لها كثيراً، والذي يستبعد اسم العرب قبل الإسلام تماماً، ولا يذكر لهم مأثرة أو مكرمة، بحسب تعبير د. حسن حده (من يبرود في القلمون) في كتابه "الهجرات العربية من الجزيرة إلى الهلال الخصيب".
يضيف د. حسن حده في كتابه (ص. 7)، بعد حديثه عن غلو المستشرقين في تهميش العروبة في التاريخ القديم: "إلا أننا لم نعدم خلال تنقيبنا عن المصادر التي نسترشد بها، في طريق بحثنا هذا، بعض المؤرخين المعتدلين من أمثل الدكتور جواد العلي، والدكتور أحمد أمين، والدكتور أحمد سوسه، وابن خلدون، وآرنو الفرنسي، وفلازر النمساوي، وفيليب حتي المؤرخ".
إذاً لسنا معرفياً في صحراء بلا ماءٍ أو واحات، إنما علينا أن نبحث وننقب، وسنجد. ومن البديهي أن تلك الواحات والينابيع والآبار تحيط بها كثبانٌ رملية وفيفافٍ قاحلةٌ ورمالٌ متحركة والكثير من السراب، ولذلك ليس من المفاجئ قط أن تطغى على الحقيقة أحياناً، وأن يستشهد البعض بأعمال المستشرقين والمتصهينين الذين ينكرون عروبة تاريخنا القديم.
يقول د. حسن حده: "لقد ثبت علمياً – وبما لا يقبل الشك – أن الهجرات العربية كان مصدرها واحداً: الجزيرة العربية، منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا"، مضيفاً أن تعبير "ساميين" لم يظهر يوماً قبل الاستشراق الغربي، فيما وردت كلمة عرب عند البابليين والآشوريين والكنعانيين، وفي هذا الموضوع قال العالم سبنسر: "إن العرب والساميين شيءٌ واحدٌ، ولذا فإننا سنرجح التسمية التسمية العربية في موضوعاتنا" (ص. 9).
ويسرد د. حده بعد هذه المقدمة تاريخ الهجرات الكنعانية والعمورية والآرامية، والأكادية من قبلها، وغيرها، من الجزيرة العربية إلى عموم مناطق الوطن العربي الكبير.
كذلك يقول د. فيصل عبدالله في كتابه "مقدمة في علم الأكاديات ودور العرب فيه" الصادر في دمشق عام 1990: "لم يجد علماء التاريخ الأوروبيون والغربيون عامةً، لا من مصلحتهم القومية، ولا من مصلحتهم الشخصية "العلمية"، القول إن فضل الحضارة القديمة يعود لأسلاف عرب اليوم وحضارتهم ولغتهم" (ص. 8)، ثم يضيف: "نلحظ طفرةً غير طبيعية هدفها تقديم تاريخنا القديم وكتابته كيفما اتفق، أو وفق أنماط تنظيرية غامضة أو وفق أهدافٍ تخدم – ربما من دون قصد – الحركة الصهيونية المعادية للعرب والتي بنت تاريخها أساساً على أسس تاريخنا القديم، وراحت تدعي من خلال أبحاث أنصارها بأنه ملكٌ لها وحدها وللديانة اليهودية فحسب"، ثم يتابع د. فيصل عبدالله أن المطلوب هو إعادة دراسة الوثائق المتعلقة بالتاريخ القديم وشروحها "لأنه العمل الذي يبرهن على الصلة الطبيعية بين سكان الوطن العربي اليوم وبين سكانه منذ أقدم العصور، ويوضح الصلة الطبيعية بين أدب وفكر الماضي وذلك الذي يعيشه العرب اليوم" (ص: 15-16).
د. إبراهيم علوش
باحث وكاتب