الليبرالية وأنواعها وتناقضاتها وانقلاب دورها المعاصر
مقالات
الليبرالية وأنواعها وتناقضاتها وانقلاب دورها المعاصر
د. إبراهيم علوش
2 كانون الثاني 2021 , 00:49 ص
الليبرالية وأنواعها وتناقضاتها وانقلاب دورها المعاصر

 

إبراهيم علوش

حول الرأسمالية والليبرالية:

كان النظام الإقطاعي هو النظام السائد في أوروبا الغربية القرون الوسطى، وقد استمرت بقاياه حتى القرن الثامن عشر والتاسع عشر في بعض البلدان الأوروبية الغربية، وكانت من سمات النظام الإقطاعي الاجتماعية استناده إلى نظام طبقي يقسم المجتمع إلى لوردات ونبلاء ورجال دين لا يتساوون مع عامة الشعب، لا سيما طبقة الفلاحين التي تشكل الجزء الأساسي من عامة الشعب.

 

ترافق صعود الرأسمالية في أوروبا الغربية مع تزايد التجارة، ومن ثم الثورة الصناعية التي قلبت موازين الاقتصاد والمجتمع والسياسة؛ ففي حيز الاقتصاد، انتقل | مركز الثقل من الزراعة إلى الصناعة؛ وفي حيز المجتمع، انتقل مركز الثقل السكاني من الريف إلى المدينة؛ وفي حيز السياسة، انتقل مركز الثقل من الإقطاعيين والكنائس | إلى أصحاب المصانع وأصحاب رأس المال، وإلى رجال الدولة الحديثة، الدولة القومية المركزية التي قامت بعدما شعر أصحاب المصانع ورأس المال بضرورة توحيد السوق القومية؛ وفي حيز الثقافة، انتقل مركز التنقل من رجل الدين إلى المثقف الحديث (ولم تحدث مثل هذه النقلة في مجتمعنا العربي لأننا لما ننجز عملية الانتقال إلى الحداثة). 

 

لم يحدث الانتقال من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي سلميا أو بسلاسة، بل اقتضي قرونا من الصراعات الدموية والسياسية والثقافية، وحتى الدينية، بين الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تمثل النظام الإقطاعي من جهة، وحركات الإصلاح البروتستنتي التي كانت تمثل البرجوازية الصاعدة لا بد من التشديد هنا على أن مصطلح "برجوازية "  لا يعني طبقة الأغنياء بالمطلق في أي عصر، بل يعني طبقة التجار الكبار والصناعيين الذين نشؤوا مع تبلور النظام الرأسمالي من رحم النظام الإقطاعي، أي أن المصطلح هو نتاج تطور تاريخي محدد يرتبط بسكان المدن في العصور الوسطى الذين كانوا حاضنة الرأسمالية الأولى في ظل النظام الإقطاعي، وكلمة برجوازية مشتقة من bourg أو burg ومنها جاءت كلمة bourgeois أي ساكن المدينة، ومنها  bourgeoisie ، أي طبقة البرجوازيين  (و أصل الكلمة عربي بالمناسبة، وتعني برج).

ولا يصح إطلاق وصف برجوازي على الأغنياء في العصر الإقطاعي أو العبودي السابق للإقطاعي) أو على المجتمعات التي لم تدخل مرحلة التحول الرأسمالي في آسيا وإفريقيا .

 

الرأسمالية نظام يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ( المصانع والأصول المادية عامة)، وعلى الإنتاج السلعي أي الإنتاج لا للاكتفاء الذاتي للمنتج أو للقرية، بل للسوق ككل)، وعلى هيمنة السوق (بمعنى أن قوة العمل مثلا تصبح سلعة خاضعة للبيع والشراء، وهذا اسمه العمل المأجور، الذي يباع ويشترى أسوة بأي سلعة).

 

الإقطاع بصفته نظاما يربط الفلاحين بالأرض (نظام القنانة) ، وبصفته يمثل تفتتأ سيادية و قانوني يفرض عشرات المكوس والضرائب والقوانين المختلفة بحسب الإقطاعيات المنتشرة على أرض أمة من الأم م، مثلا ألمانيا في بداية القرن التاسع عشر كانت تتألف من أكثر من 500 إمارة ودويلة ودوقية إلخ...

 

ولكن القوة الدافعة للطرح الليبرالي كانت الطبقة البر جوازية الصاعدة، وسناتي لاحقا لأبعاد نشر المفاهيم الليبرالية المستندة إلى مرجعيات فردية في أمم لم تحقق وحدتها القومية بعد، أو بلدان | برسم التفكيك، مثل بلدان الأمة العربية، ومن دون البعد الآخر الثورة الفرنسية وهو حق تقرير المصير والوحدة للأمم.

 

حمل نابليون بونابرت معه رسالة الثورة الفرنسية إلى أمم أوروبا في بداية القرن التاسع عشر، أما الحرب العالمية الأولى عام 1914 فقد أسفرت عن انحلال أربع إمبرطوريات عابرة للقوميات تحمل بقايا إقطاعية في جوهرها، منها الإمبراطورية العثمانية وكان الطرح الليبرالي العربي والإسلامي، كما تجلي في مشاريع النهضة العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، قد ربط بين الحريات الفردية وتحقيق مشروع نهوض قومي أو مشروع تأسيس دولة وحدة عربية، وقبلها كان ذلك هو مشروع إبراهيم ابن محمد علي باشا عندما جاء من مصر إلى بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، إذ يركز كثيرون على مشروعه الوحدوي، من دون أن ينتبهوا إلى أن إبراهيم باشا كان يحمل معه أيضا مشروع دولة المواطنة العابرة اللملل والنحل، فقد كان إبراهيم باشا بكل معنى الكلمة نابليون العرب.

 

 

حول العلاقة بين الليبرالية السياسية والليبرالية الاجتماعية:

تتخذ الليبرالية معاني مختلفة على الصعد الاقتصادية والسياسية، فهي على الصعيد الاقتصادي حرية العمل والاستثمار والبيع والشراء من دون قيود، وحق الملكية الفردية وحصانتها، وهي على الصعيد السياسي حرية التعبير والاجتماع، وحق التساوي أمام القانون، واستقلالية القضاء، والانتخاب الحر لممثلين للشعب ينوبون عنه في تقريرشؤونه،  وهي الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية لضمان منع الاستبداد، وهي تربط مشروعية الحكم برضا المحكوم، كما أن الليبرالية تعني على صعيد الفلسفة السياسية اعتبار الفرد مرجعية الحق والباطل والصح والخطا وعدم تدخل الدولة أو المجتمع فيما يراه الفرد مناسبة له إلا بمقدار ما يمكن أن يضر به الآخرين.

 

على الرغم من أن جذور المفاهيم الليبرالية تمتد عميقا في تاريخ الفكر والفلسفة إلى اليونان والشرق، فإن ذلك لا يهم كثيرا في الواقع، لأنها لم تتخذ صورة فلسفة شائعة تمثل مصلحة طبقة اجتماعية محددة في مرحلة تاريخية محددة إلا مع صعود الرأسمالية، وهي مرحلة عصر التنوير الأوروبي  Age of، Enlightenment وكان الفيلسوف السياسي الأبرز المعبر عنها هو البريطاني جون لوك
1704-1632 ( John Locke)
الذي ما برحت أفكاره تعد المرجعية

الأولى للفكر السياسي الليبرالي الكلاسيكي .

 

قبل الدخول في الفرق بين الليبرالية السياسية من جهة والليبرالية الاجتماعية من جهة أخرى، لا بد من تحديد الفرق من جهة والليبرالية الاقتصادية...... وهو جوهر التناقض الذي زرع انشقاقا عميقا في التقليد

الليبرالي وصولا إلى تاريخنا المعاصر .

 

الليبرالية السياسية ، كما جاء آنفا تنطلق من مفهوم دولة المواطنة ، وحرية التعبير والإجتماع والإعلام ، وممارسة المواطنين  لسيادتهم على أرضهم من خلال ممثلين منتخبين، وحقهم بالتصويت العام، وبأن يحاكموا محاكمة عادلة أمام قضاء مستقل و غير متحيز، ومحو الامتيازات الأرستقراطية (المرتبطة بالإرث الإقطاعي والكنسي).....
ولنتبه جيدا إلى أن محور الليبرالية السياسية فيما يتعلق بعلاقة المواطن بالدولة هو فكرة المساواة، أي تساوي الحقوق والواجبات.

 

الليبرالية الاقتصادية، بالمقابل، تركز على حقوق الملكية وقدسيتها، والأسواق الحرة، والتجارة الحرة، والاستثمار غير المقید، وباختصار، حق رأس المال في أن يفعل ما يريد، و هو جوهر فكرة الحرية في الفكر الليبرالي: مصلحة الطبقة البرجوازية .

 

أما الحديث عن حرية المواطن في أن يأكل ويشرب ويلبس ويعيش كما يريد في حياته اليومية فلم يعد يطرح اليوم إلا في مواجهة القيود الدينية والاجتماعية المحافظة، وما عدا ذلك فإنه نوع من ذر الرماد في العيون.

 

التناقض الذي نشأ في رحم الفكر الليبرالي، بعد انتصار الثورات البرجوازية في أوروبا الغربية، كان بين فكرة الحرية الاقتصادية أساسية من جهة، وفكرة المساواة (السياسية والاجتماعية أساسا )من جهة أخرى ؛ فالحرية الاقتصادية في ظل النظام الرأسمالي أفضت إلى نشوء طبقة برجوازية تملك من الإمكانيات والسلطات و النفوذ والتأثير والقدرة على التحكم بمخرجات النظام السياسي ما كان يحلم به الإقطاعيون والنبلاء حلما، وهو ما حول شعار المساواة أمام القانون إلى أضحوكة في ظل تصاعد الفقر والبؤس والبطالة والأزمات الاقتصادية والتفاوت الطبقي في النظام الرأسمالي .

 

 

من هنا شكلت النزعة الاشتراكية، لا سيما في فرنسا في القرن التاسع عشر (كما مثلها الفلاسفة سان سيمون وفورييه وبرودون) ،  حتي قبل تبلور الفكر الماركسي، استمرارا تاريخيا لشعار المساواة في الثورة الفرنسية، ولكنه استمرار اقتضی الانتقال من نقطة مرجعية إلى أخرى، أي من مرجعية الفرد إلى مرجعية الجماعة، وهذا شكل تحولا في المنظور الفلسفي ذاته أفضى إلى اعتماد منظور أولوية مصلحة الجماعة على الفرد، وهو جوهر الفكر الاشتراكي، المناقض بالتعريف لليبرالية.

 

أنصار الحرية الفردية المطلقة في الاقتصاد من الليبراليين تحولوا إلى محافظين، كما في بريطانيا، أو كما في حالة الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، وهناك حالة أكثر تطرفا هي ال Libertarianism التي تنادي بالحرية الاقتصادية وانسحاب الدولة تماما من الاقتصاد والمجتمع إلا بصفتها دولة حارسة، أي لممارسة الأمن والدفاع والقضاء، وهنالك صيغة أكثر تطرفا من هؤلاء هي الدعوة لانسحاب الدولة حتى من الأمن والدفاع والقضاء وتسليم كل تلك الوظائف للقطاع الخاص، وهذا التيار له نفوذه وتأثيره، وهو يدعو لخصخصة السجون والشرطة والأمن إلخ.... وتسليم كل تلك الوظائف للقطاع الخاص، وثمة تجارب لخصخصة السجون في الولايات المتحدة، وبالطبع فإن الشرطة أو الحراسة الخاصة، ومن ثم الجيوش الخاصة، هي جزء من هذا التوجة، الذي عممته العولمة عسكرية فيما بعد من خلال الشركات المرتزقة الخاصة، مثل شركة بلاكو وتر‘ الأمريكية، وشركة سادات التركية.

 

الليبرالية الاجتماعية هي تيار في الفكر الليبرالي يحاول مصالحة مفهومي الحرية الفردية والمساواة الاجتماعية، وبالتالي فإن لديه منظرين ومفكرين يجادلون بأن الحديث عن المساواة، من دون تحقيق شروطها، يحول الفكرة الديموقراطية إلى هراء، فلا معنى للحديث عن الحرية وتساوي الحقوق في ظل التهميش الاجتماعي والاقتصادي، ولهذا يرون أنه لا من تدخل الدولة لتحقيق تلك الشروط عبر التعليم المجاني والطبابة المجانية ودعم الفئات الأقل حظا والأكثر تهميشا في المجتمع وتأهيلها لكي تتمكن من ممارسة حقوقها التي ينص عليها القانون، ومن هؤلاء الحزب الديموقراطي في الولايات المتحدة، والأحزاب الديموقراطية الاجتماعية في أوروبا الغربية، وهؤلاء قد يتساهلون مع تدخل الدولة في الاقتصاد لتحقيق هدف المساواة، وقد يتقبلون بدرجات متفاوتة فكرة الاقتصاد المختلط، ولكنهم ليسوا اشتراكيين، بل يعودون في النهاية إلى جذورهم الليبرالية، على عكس الاشتراكيين الذين انقلبوا على المرجعية الفردية إلى مرجعية جمعية .


 

الشق الكبير في الحياة السياسية في الغرب، على صعيد السياسات الاجتماعية والاقتصادية، هو بين هذين التوجهين، وهو ما يوصف خطا باليمين واليسار في الغرب، أو في الكيان الصهيوني بين الليكود وحزب العمل سابقا، ولهذا فإن تعبير ليبرالي في السياسة بات يحفظ في الغرب اليوم لهذه الفئة (الساعية لمصالحة فكرة المساواة الاجتماعية مع فكرة الحرية الفردية ) ، أما الليبراليون المتطرفون في الاقتصاد على حساب المساواة السياسية فيعدون محافظين.

 

الليبراليون في السياسة في الغرب باتوا يشددون اليوم على التعددية الثقافية وحقوق الأقليات واحتقار الحس القومي وإعلاء شأن التجارة الدولية كأداة لتحقيق السلام الدولي، وهو خط الإدارة الأمريكية في ظل (بل كلينتون أو أوباما) ، وهؤلاء يتبنون المدرسة النيوليبرالية، في السياسة الدولية، أما الجمهوريون فيتبنون المدرسة الواقعية الجديدة في السياسة الدولية.

 

الخط الليبرالي الجديد ازدهر مع ازدهار فكرة العولمة، وعبور الحدود، وتجاوز القوميات، ولكن مع انتصار الصين في لعبة العولمة، ارتد الغرب إلى مدرسة الواقعية الجديدة، التي تركز على الأمن القومي، والتي يمثل ترامب رمزها الأبرز اليوم، ولكن هذا خارج موضوعنا هنا .


 

كلاهما في النهاية يستند إلى مرجعية الفرد، التيار المحافظ، أو «الواقعي» (وكيسنجر من أبرز منظريه) ، التيار الليبرالي الاجتماعي، الذي يحاول التخفيف من وطأة الرأسمالية وإفراطها وأزماتها الاقتصادية من تدخل الدولة في الاقتصاد، من خلال الضريبة التصاعدية وفرض فكرة المسؤولية الاجتماعية الشركات الكبرى وما شابه، ولكن الليبرالي مرجعيته فردية في النهاية، بمعنى أن ما يصح وما لا يصح يقاس أولا بمصلحة الفرد المجرد، الذي يسمي فلسفيا "حقوق الإنسان"، أي حقوق الإنسان الفرد.

 

المرجعية القومية أو الاشتراكية بالمقابل هي حقوق الجماعة، حقوق الأمة، أو حقوق الطبقات الشعبية، والمرجعية الوطنية هي حق الوطن، والعبرة ليست في أن الليبراليين يرفضون بالمطلق حقوق الجماعة، ولا في أن القوميين أو الاشتراكين يرفضون بالمطلق حقوق الفرد، بل في تحديد الأولويات، أي هل تأخذ حقوق الجماعة الأولوية أم حقوق الفرد في القانون والسياسة؟

 

وهذا هو بالضبط ما يفرق ما بين الليبرالي وغير الليبرالي اليوم، وإعطاء الأولوية للحق العام هو

ما يجعل المرء قومية أو اشتراكية، وإعطاء الأولوية للحقوق الفردية هو ما يجعل المرء ليبرالياً.

 

في الولايات المتحدة مثلا حدث أن تم تبرئة أو تخفيف الحكم على متهمين، ألقي القبض عليهم بالجرم المشهود متلبسين، والدماء تسيل على أيديهم، وفي أيديهم سلاح الجريمة، لأن الشرطي الذي ألقي القبض على المتهمين، في خضم معركة دموية معهم، سقط فيها زملاوه قتلى وجرحى إلى جانبه، نسي أن يقرأ لهم كمتهمين حقوقهم الفردية المعروفة باسم :

Miranda Rights: You have the right to remain silent.  Anything you say can and will be used against you in a court of law.
You have the right

to an attorney. If you can't afford an attorney, one will be appointed for you ....الخ.

 

يبقى ما سبق نقطة خلاف بين الليبراليين السياسيين الاجتماعيين من جهة والمحافظين من جهة أخرى تعكس ذاتها في الكثير من الأفلام الأمريكية، وقد شكلت مادة لردة فعل محافظة على الليبراليين الاجتماعيين، ولكن كذلك يمكن أن تجد مثلا أن البث التلفزيوني للبرامج المعهودة توقف لأن قطة وقعت في بئر، ليصبح الخبر العاجل هو تغطية عملية إنقاذ القطة إعلاميا، وهو ما يمكن أن يستمر ساعة أو ساعتين، لتتوج النهاية السعيدة بتصفيق الجمهور المتابع لعملية إنقاذ القطة...    وهذه ليست سفاهة، بل نتيجة طبيعية للتركيز على الحق الفردي على حساب الحق العام.
 

أما إذا تحدثت عن قضية شعب، عن قضية فلسطين مثلا أو السكان الأصليين للولايات المتحدة الذين أبادهم المستعمرون الأوروبيون، أو عن مليون أو مليوني عراقي قضوا بالعقوبات الأمريكية على العراق، أو عن حصار سورية اليوم، أو السطو الأمريكي على نفط شرق الفرات وغازه، فإن ذلك يصبح قضية خلافية شائكة ليس من الذوق بشيء طرحها في اللقاءات الاجتماعية . وتلك هي النتيجة الطبيعية للفكر الليبرالي. ولنلاحظ هنا كم من مثقفينا ويساريينا العرب يتبنون مرجعيات ليبرالية في الجوهر.

 

خلاصة الفكر الليبرالي في نهاياته المنطقية، كما لخصها الشاعر السوري أديب اسحق في القرن التاسع عشر، هي :

قتلُ امرئٍ في غابةٍ

جريمةٌ لا تغتفر
مسألة فيها نظر
وقتلُ شعبٍ آمنٍ
مسألة فيها نظر

وكما صاغت الفكرة رئيس وزراء بريطانيا الأسبق مار غريت ثاتشر في مقولتها الشهيرة:

There is no such thing

as society. There are only individuals
أي لا يوجد شيء اسمه

مجتمع ثمة أفراد فحسب .

 

مشكلة طرح الفكر الليبرالي في ظروف بلدان الوطن العربي :

الليبرالية الاقتصادية في دول الجنوب والشرق عمومأ، وفي الوطن العربي خصوصا،

المعروفة اختصارا باسم "النيوليبرالية" ، الليبرالية الجديدة، باتت تعني اليوم ترك

الحبل على الغارب للشركات عابرة الحدود "لكي تتغول كما تشاء، وبيع القطاع العام لها،
وإعفاء الدولة من أي مسؤولية اجتماعية، وإحلال الاستيراد محل الإنتاج المحلي، والسماح للاحتكارات بأن تعصر المواطن للقطرة الأخيرة، والتخلي عن مشروع التنمية المستقلة بذريعة الاندماج في الاقتصاد العالمي، وإلقاء العبء الضريبي على المواطن من خلال زيادة ضريبة المبيعات فيما يتم تخفيض الضرائب على الأرباح والدخول المرتفعة.

 

ومع نشر فكر العولمة وتزايد البرامج التي تطرحها المؤسسات الدولية في الوطن العربي، لا سيما دول الطوق المحيطة بالكيان الصهيوني، انتشر في الوطن العربي خطان أحدهما يركز على الليبرالية الاقصادية، والآخر يركز على الليبرالية السياسية، وكلاهما يكمل الآخر، تماما كما في الغرب، وكلاهما يشترك بصفة أساسية ها استناده للمرجعية الفردية الصرف في حالة الليبرالية الاقتصادية، أو المرجعية الفردية في الحياة الاجتماعية (أي أن يعيش الفرد كما يحلو له) المخففة بدور اجتماعي للجمعيات غير الحكومية الممولة أجنبية (بديلا للدولة)، حتى لو ظهر أنهما مختلفان في المظهر  .

 

المشكلة السياسية في الحالتين هي تجاوز المرجعية الجمعية، كطرف نقيض للمرجعية الفردية، سواء كانت حقوق الأمة (السيادة، القرار المستقل، التحرر) أم حقوق الطبقات الشعبية ( الحق بعيش كريم، حق تأمين الحاجات الأساسية، الحق بالتحرر من الاستغلال) .

 

المشكلة الأخرى في الطرح الليبرالي في ظروف البلدان التي لم تحقق وحدتها القومية هي أنها تربط ذلك الطرح بتجاوز الانتماء الوطني والقومي في مواجهة الدول المستقلة وحركات التحرر الوطني، وليس بتكريسه في مواجهة الإقطاع والكنيسة كما كانت عليه الحال مع الليبرالية الأولي في أوروبا الغربية، وبالتالي فإنه يصبح جزءا من مشروع التفكيك، وفي ظروف الوطن العربي، يصبح الطرح الليبر الي جزء من مشروع( الشرق أوسطية) ، وبالتالي فإنه يصبح في الوطن العربي جزءا من تكريس مرجعية الفرد على حساب الهوية والانتماء الوطني والقومي، أي من مشروع اقتلاعه من جذوره.

 

لو كنا قد أنجزنا عصر النهضة والتنوير والثورة الصناعية، ولو كانت المناطق والقبائل والطوائف قد اندمجت في بوتقة دولة قومية واحدة، تقوم فيها العلاقة على ميزان بين الدولة والمواطن المنتمي بشكل تام وطنية وقومية، لأصبح للطرح الليبرالي سياقه المنطقي، أما قبل تحقيق مشروع النهضة والوحدة والتحرر القومي، فإن الطرح الليبرالي يصبح أداة تفكيك، وبالتحديد، أداة لتذرر التراكم المدني الذي حققناه عبر مسيرة مشاريع النهضة العربية المتحققة منذ القرن التاسع عشر إلى شذرات فردية تمارس غربتها في قواقعها الفردية، وهو جوهر أزمة المثقفين العرب المفتقدينللانتماء الوطني والقومي اليوم.

 

الحديث عن مقياس فردي للحق والباطل والصح والخطا في مجتمعنا العربي المعاصر الذي لم يحقق اندماجه الاجتماعي على أسس المواطنة القومية أولا، وجعل الدولة، بالمطلق، عدوا للحقوق الفردية، يؤسس للانسلاخ عن الوطن والهوية، وعن التراث وأي مشروع جمعي بشكل عام، كما أنه يؤسس لإضعاف الحياة الحزبية والسياسة عموما مع سعي " الأفراد"  لأن يكونوا "مستقلين".

 

لسنا ضد الحقوق الفردية، ولا نتدخل فيما يخص الفرد عندما لا يكون له بعد وطني أو قومي أو اجتماعي، ولكن ما يجري تأسيسه اليوم هو تكريس تفكيك المفكك وتجزئة المجزأ اجتماعيا، على مستوى علاقة الفرد بالمجتمع، لا على مستوى علاقة فئات من المجتمع بالدولة فحسب، مع العلم أن جماعة الحقوق الفردية يغوصون كثيرا في مسائل حقوق " الأقليات " الحقيقية والمخترعة  .

 

في الخلاصة، أجهض الغرب بالعنف والتأمر كل محاولة عربية لتحقيق النهضة العربية، من مصر إلى العراق إلى سورية إلى غيرها، وبالتالي فإن التطور الطبيعي من الإقطاع للرأسمالية انقطع عندنا، فلا خيار إلا قيام قوة راعية بتحقيق المشروع النهضوي، قوة مركزية، من فوق، تماما كما حاول محمد علي باشا أن يفعل في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وكما فعل بطرس الأكبر في روسيا. وهذه القوة ليست سوى الدولة صاحبة مشروع النهضة القومية.

 

*هذه الورقة نسخة موسعة من مقالة "مسألة الليبرالية الحديثة في كلمة الرئيس الأسد في جامع العثمان "

 

د. ابراهيم علوش 

كاتب وباحث