كتبت نـسـريـن حـسـن نـصـر\ معالجة نفسيّة وأسرية:
يعود إلى المنزل بعد غياب 5 أيّام في عمله المضني، ولا يخفّف عنه وطأة التعب إلّا تذكّر ساعات اللقاء مع عائلته التي يشتاق إليها، لينعم بما يحتاج إليه من بعض هدوء واهتمام. وعندما يصل، لا يجد إلّا التذمّر نتيجة غيابه، وتذكيره بالمسؤوليّات التي يتوجّب عليه القيام بها خلال الإجازة الأسبوعيّة تعويضاً عمّا فاته! وحين يخلد إلى الراحة، قد يسمع عبارة: "هل أتيت من عملك حتّى تنام؟".
• كـيـف تـبـدأ المـشـكـلـة؟
دعونا ننظر بقرب إلى حال أحد البيوت خلال أيّام عمل ذاك الرجل؛ زوجته تتعامل مع الأطفال طيلة النهار وغالباً تتحمّل مسؤوليّاتهم المعنويّة والتربويّة وحيدةً، مضافاً إلى واجباتهم الاجتماعيّة. تتّصل به يوميّاً، لكنّه غالباً ما يكون مشغولاً خلال النهار، وتخلد ليلاً إلى النوم باكراً، وتكتفي بإلقاء تحيّة المساء عليه، وكلّها أمل أنّ نهاية الأسبوع ستحمل لها العاطفة والسكينة! وما إن يحضر إلى البيت، وقد أنهكه التعب، ولم يبادر إلى عناقها بالشغف الذي تنتظره، حتّى تراه زاهداً فيها، وما عاد يحبّها! فتتفاقم الأمور حين تناقشه وهي في قمّة إحباطها، ويردّ عليها وهو في قمّة صدمته من عدم تفهّمها لتعبه، وعدم تقديرها لما يبذله من أجلها. ومن النهايات الشائعة لهذا الحوار: "أنتَ لم تعد تحبّني، واعتدت غيابي"، ليردّ عليها: "أنت النكدة التي تصرّ على تدمير أجمل اللّحظات!"، وقد يعود ويصالحها فتقول له: "بعد ماذا؟!"، وقد تُبادر لتصالحه، فيقول لها: "وهل ينفع؟!".
• مَـن المـذنـب؟
دعونا نتوقّف عند هذه الحالة ونسأل: من المخطئ هنا، ومن المذنب؟
الجواب باختصار: لقد خانهما التعبير؛ فالزوج يرى في البيت مكان الهدوء والراحة بعد يوم طويل من العمل. أمّا الزوجة، فترى المنزل المكان الأمثل للأحاديث الرائعة والدفء، ولا تشعر بذاتها إلّا من خلال إشباع حاجتها الملحّة للحديث مع زوجها وإطلاعه على كلّ ما حدث معها. ولو فهم الرجل هذه الفكرة البسيطة، لما بخل عليها بكلمات الحبّ التي تروي قلبها وتطمئنها، ولأدرك أنّ صمته يهزّ ثقتها بأنوثتها، ولعرف أنْ ليس هناك أتعس من امرأة تشعر بأنّ زوجها لا يراها. لذا، فإنّ تجاهل احتياجها لإظهار الحبّ، يُشعرها بالحزن والخيبة.
في المقابل، لو فهمت المرأة أنّ كلام الغزل والحبّ عند الرجل ليس هدفاً للسعادة في حدّ ذاته، بل الهدف هو أنّهما معاً مدى العمر في بيت واحد بهناء، وأنّه يسعى دائماً لتأمين حياة كريمة لها؛ لتوقّفت عن الانفعال وتقييم حبّه لها بناءً على تقييمها الخاصّ والوحيد وهو "الكلام". وقد نرى تحوّل المرأة إلى شخص عصبيّ ومتوتّر بسبب إحساسها أنّ زوجها بدأ بالنفور منها؛ لأنّه لا يغازلها، أو يثني عليها، ونرى الزوج لا يفهم ما وراء غضبها، وقد يصف ما تقوم به بـ"النكد".
• مـتـلازمـة الـذبـذبـات الـعـاطـفـيّـة
إنّ ما سبق كلّه يسمّى بمتلازمة "الذبذبات العاطفيّة" الضائعة؛ حيث يرسل كلا الطرفين ذبذبات عاطفيّة للآخر، لكن بسبب الأحكام المسبَّقة عن الحبّ عند كليهما، لا تصل هذه الذبذبات إلى الآخر. وقد زارني مؤخّراً للاستشارة الكثير ممّن أصابتهم هذه المتلازمة، ففي حين ترى "حسناء" أنّها لا تفوّت فرصةً دون أن تعبّر لزوجها عن شوقها وحبّها، يرى الزوج أنّها غير مستعدّة لتركه ينام ولو لساعة واحدة بعد عودته من عمله، وحين قلت له: "ماذا لو كانت تشتاق إلى التحدّث معك؟"، قال: "لو كانت تحبّني لتركتني أرتاح"! عندها بدأت "حسناء" بالبكاء، وقالت: "وهل أصبحت راحتك بدوني؟!". وكذلك الأمر مع "نور" التي قالت إنّه لم يعتذر إليها حين تركها عند الطبيب متوجّهاً لعمله، الأمر الذي جعل الزوج في حالة ذهول أمامي، وقال لها: "ألم أحضر لك ليلاً نوع الشوكولا المفضّل لديك، مع وردة من حديقة منزلنا؟!"، فقالت: "كان يكفي أن تقول لي كلمة جميلة!". وحين قلت لها: "ماذا لو كانت هذه طريقته لقول أحبّك؟"، قالت: "ولكنّي كنت بحاجة إلى سماعها"!
ولعلّ من أبرز مصاديق الاختلاف بين المرأة والرجل مشكلة "دينا" التي تشكو انعدام (الرومانسيّة) لدى زوجها؛ فهو، وبعد 20 عاماً على زواجهما، لم يغازلها ولم يحضر لها وردةً يوماً، في حين دافع الزوج عن موقفه، قائلاً: "وهل مرّ أسبوع منذ زواجنا دون أن نخرج معاً؟! هل زرتُ أيّ صديق أو قريب لي دون أن أطلب منك مرافقتي؟! هل سافرت ولو مرّة واحدة دونك، ولو كان سفراً لأجل العمل؟!". فقالت: "كلّ ما قلته صحيحاً، لكنّي أتحدّث عن حبّ من نوع آخر!".
• قـداسـة الـعـلاقـة الـزوجـيّـة
إذاً، يبدو الأمر وكأنّنا نتحدّث هنا عن كيانَين وعقلَين وفكرَين مختلفَين، لكن يجمعها هدفٌ واحد. كلا الطرفين قدّم إثباتات كبيرة على حبّه للآخر، ولكن تبيّن أنّ الأخير بحاجة إلى منسوب أقلّ من الحبّ ومن نوع آخر. ما الحلّ إذاً؟! هل يبقى كلّ طرف متمسّكاً بما يرضيه هو، ويرى أنّ أيّ شيء يقدّمه الطرف الآخر ليس كافياً؟
قبل كلّ شيء، "على الزوجين أن يؤمنا أنّ الأهمّ في العلاقة الزوجيّة المقدّسة هو تحقيق السعادة والفرح والأنس لكليهما"، وعلى كلّ طرف عقلنة أحكامه وربطها بمواقف كثيرة، وليس بناءً على معيار واحد. صحيح أنّ الحاجة إلى الحبّ وإلى كلام الحبّ هي حاجة لا تنضب عند الشريكَين، ولكن قد تخفّ شدّتها عند أحدهما، والذي غالباً ما يكون الرجل بسبب توجّهه نحو تحمّل المسؤوليّة وبسبب مرور الوقت والتعوّد، خصوصاً بعد إنجاب الأطفال وتزايد الضغوط والمسؤوليّات الأسريّة والماديّة، والانشغال برعاية وتلبية احتياجات الأطفال، ولكن على الرجل أيضاً أن يلتفت إلى أنّ المرأة مهما زادت مسؤوليّاتها، زادت حاجتها إلى الحبّ والغزل والدعم؛ لذا على كلّ طرف بذل أقصى ما يمكن لفهم ما يحاول الآخر تقديمه من حبّ، وفهم ما يريده، ومحاولة تقديمه.
• ﴿قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء﴾
لا أظلم الرجل حين أحمّله مسؤوليّة أكبر في الحفاظ على التوافق الزوجيّ بناءً على الآية الكريمة: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ (النساء: 34)، *التي تحدّثت عن قوامة الرجل في الحياة الزوجيّة، والتي هي ليست امتيازاً، بل تتطلّب منه أن يتفهّم انفعالات زوجته ومشاعرها التي تختلف كليّاً عنه. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فالقوامة ليست الاستبداد والتحكّم كما يروّج لها، بل هي القوّة والسند والحماية التي تحتاج إليها المرأة لتستمرّ في حبّها وشغفها به، فلا يمنعها من حقّها في أن يكون هو بالنسبة إليها كذلك. وليُعِد كلّ منكما النظر في المفاهيم المحدودة عن الحبّ، وفي فهم لغات الحبّ المختلفة والعديدة التي يقدّمها كلّ شريك للآخر.